عودة إلى جوابات حراجي القط بعد توقف دام طويلا، نعود ونكمل المسيرة مع الجواب السادس والثالث لفاطنه، فاطنه هنا تقريرية أكثر من الجوابات السابقة، هديت نار الشوق الأولى وأصبح العقل له كلمة بجانب العاطفة والشوق.
يبدأ الجواب بشكل تقريري يخفي أكثر ما يظهر، “فنعرفكم.. إحنا بخير ولا يلزمنا إلا رؤية وجه الغايبين”، ثم تكمل “وما دمتو في صحه وعال إحنا ما يلزمناش أكتر من ورقة في ظرف ناس الجبلاية كبيراً وصغيراً عاوزين رؤياك”، لا يفرق بين المقطعين إلا تفاصيل عن ساعي البريد مرزوق البسطاوي وحياته العائلية وسبب تأخره، يؤكد الأبنودي إنك أمام جواب شخصي لا قصيدة شعرية.
الجمل الخبرية والأسئلة المقتضبة من فاطنه تخفي الكثير من الشوق، تحاول كتم النار والقلق،واضح من غضبها المستتر تحت الردود القصيرة، ذلك الغضب ينكشف سببه في الجملة التالية “واللهي ما خش دماغي حاجه من اللي كاتبه في الورقه” والقلق لسماعها عن عمال تموت في السد العالي، لا تستطيع كتم الشوق أكثر من ذلك، بعد أن قالت في جوابها الأول “اتأخرت مسافه كبيرة.. كبيرة علي”، ليكون تعبيرها هنا أكثر شعرية وألما؛ “أيام غيبتك عاصية على العد” بعد شهرين يا بخيل لم تستطع فاطنه أن تستمر في عد الأيام، أصبحت حقيقة عاصية على العد، بجملة واحدة الأبنودي يجذبك إليه وإلى عالمه بكل سهولة، غريبة إنه لم يقولها في التسجيل الشهير للجوابات.
الأبنودي واقع في غرام فكرة الجوابات، مزج العام بالخاص، الخلط بين المواقف المادية الاجتماعية والمشاعر الشخصية الخاصة، جملتين عن المادي؛ حديث فاطنه عن النخلة الشرك، ثم بسرعة البرق وبخفة يد ساحر يسقطك الأبنودي في بئر الشوق، جملة زوجية تملئها العاطفة، الأبنودي يفهم الأنثى جيدا، يفهم تأثير طعام الحبيبه للحبيب، الطعام المصنوع بحب، إغراء لا يقاوم، وأيضا فاطنه ترد مديحه لها ولفطيرها في الجواب السابق، “بت يا فاطنه الني في الدنيا مافيه واحدة بتسوي فطير زيك”، والجزاء من جنس العمل “مش راح تاجي؟ طالقالك في البيت فروج .. علشان لما تعود م الأسوان دي تلاقي لك حتة لحم”، خلط الأمر بين الفراخ واللحم، هو أمر ط بيعي وواقعي، لا يترك الأبنودي مساحة لأن تشعر إنك أمام قصيدة كتبت من شاعر، لا أنت حقا تقرأ جواب فاطنه الأميه لزوجها حراجي العامل في السد العالي.
واضح إن فاطنه تعبر عن شوقها وسط الحديث ولا تفرغ له مقطع منفصل، في وسط الكلام جملة عن الشوق ثم تعود سريعا للحديث عن أمور عامة؛ اجتماعية كانت أو مادية أو عن أهل الجبلايه، هنا مثلا بعد محاولة إغرائه بالفروج، لم تتركه في هذه الحالة، بدأت في قصة أخرى عن علي أب عباس وأمه، هنا يتضح إن حراجي شخص له احترامه في البلد، هي تشكي وتحكي عن حالة الأم، ذكية فاطنه، تعرف كيف تعبر عن ما بداخلها، هي أيضا أم، تشرح لحراجي وكأنه طفل صغير وهي معلمته الوحيدة؛ “قلب الأم إن صابه الشوق يا بوعيد يبقى أسخن من رمل القياله لما يقيد يبقى عش خراب بيصرخ على طيره” واختارت وربما لأول مرة لقب أبو عيد، لتذكره إنها أم وتعرف ما تقول وتشعر به ناحيته، والتأكيد على إنها تحكي عنها أكثر ما تحكي عن أم علي أب عباس، تذكره إن “وعلى أب عباس عارف أمه مالهاش في الدنيا غيره”، للرجوع للجواب الأول من فاطنه كانت تقول فيه “عارف فاطنه يا حراجي لاليها عايل ولا خي ليه تتأخر كده يا حراجي؟”، منتهى الدقة والجمال والشاعرية من الأبنودي، كل ذلك ولم يخرج خارج مفردات شخصية مثل فاطنه، من رمل القياله وعش الطير، لا وجود لشاعر هنا، فاطنه هي التي تحكي وتقول
وامبارح كانت وسط الحريمات
قاعده تمسح دمعتها ف طرحتها وتقول:
اللي مانعني من الموت اليوم اللي أشوف علي فيه متهني وفاتح بيت
يومها أقول للدنيا ضحكت عليكي خلاص غوري
كلما قرأت أو سمعت ذلك المقطع يأتي في ذهني سريعا قصيدة الأبنوديالشهيرة “يامنه“، نفس الفلسفة البسيطة في التعامل مع الحياة والموت والأولاد، في نهاية الجواب تكمل فاطنه حديثها عن الأحداث الاجتماعية في البلد، وهو جزء لم يسجله أيضا الأبنودي بصوته، وهو عن اخته نظله؛ سنعرفها في الجوابات اللاحقة بأنها ولدت، ثم تنهي الجواب بالشوق المكتوم، الشوق للجوابات التي هي كالماء والطعام لفاطنه، فاطنه يئست من فكرة رجوع حراجي وباتت الجوابات هي أقصى ما تتمناه.
أختك (( نظله ))
رجعت بيت الحاج ركابي إمبارح من (( جرجا ))
قالت جايه تريح عند خالاتها وحتولد في اللي يهل
يا حراجي .. جوابك بيرد الميه للزور الناشف ويبلده إحنا عايشين هنا ع السيره .. وزادنا الأخبار