“يا حياتي أنا كلي حيرة ونار وغيرة وشوق إليك
نفسي أهرب من عذابي نفسي أرتاح بين إيديك“
بدأت الحكاية مع هذا المقطع من أغنية أم كلثوم فكروني، من حفلة جامعة القاهرة 25-1-1967، تغنيها الست للمرة الثالثة في شهرين فقط، بمناسبة عيد الشرطة، وبحضور الرئيس جمال عبد الناصر.
في رحاب ذكرى 25 يناير.. أم كلثوم تهدي الشرطة أغنية “فكروني”، أو كيف كانت الأغنية في سنة النكسة؟، أو فكروني.. جمال الهدوء الفني للعملاقين، أي طرح من الأطروحات السابقة يصلح ليكون مدخلًا للموضوع.
ولكن كان المدخل الأساسي هو استمرارية الجمال، احترام الجمال الفني وتقديسه، بداية من سؤال ما هي أطول أغنية في تاريخ الأغنية العربية؟، نهاية بإجابة السؤال؛ أغنية فكروني تعتبر أطول الأغاني العربية، لأن يوجد تسجيل مدته 143 دقيقة.
هذا التسجيل الأطول للأغنية وللأغاني العربية عامة، يرجع إلى حفلة مسرح قصر النيل في بداية شهر 12 عام 1966، الحفلة التي غاب عنها رفيق أم كلثوم، ومنقذها في الهفوات والأخطاء، عازف القانون عبده صالح بسبب المرض، وحل مكانه العازف المتمكن والأستاذ “عبد الفتاح منسي”، وقدم الحفل المذيع جلال معوض.
كانت المرة الأولى التي تغني فيها أم كلثوم الأغنية، بالتعاون مع محمد عبد الوهاب للمرة الخامسة، وبكلمات عبد الوهاب محمد، وهي المرة السادسة التي تغني أم كلثوم من كلماته، وهو التعاون الأول له مع أم كلثوم بصحبة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.
ساعتين و23 دقيقة، وقفت أم كلثوم تغني أغنية واحدة لمدة ساعتين و23 دقيقة، دون أن تمل أو يصبها التعب، دون أن يتذمر الحضور، أو يصيبه الملل، هي أم كلثوم وهذا كل ما في الأمر، هي الأقرب للأسطورة، هي الأقرب لكمال الحالة الفنية للمطرب.
لحن من عبد الوهاب يتمتع باحترام للزمن، من جهة نضجه هو وكوكب الشرق، صنع لحن وقور وهادئ، ومرة ثانية في محاولة اللحاق بالزمن وتطوره، وتغير شكل الموسيقى وظهور ملحنين مثل بليغ حمدي، عبد الوهاب محمد؛ أحسن من تكلم بالسان الأنثى العاشقة، وخاصة مع أم كلثوم، من حب أيه، ظلمنا الحب، أسال روحك، للصبر حدود.
ولكن كان السؤال الفضولي والملح، هل غنت أم كلثوم بعد ساعتين و23 دقيقة غناء متواصل أم اكتفت بوصلة واحدة؟، وكانت النتيجة بعد البحث إنها لم تكتف بالساعتين و23 دقيقة، بل لم تكتف بالغناء وصلة أخرى بعد وصلة فكروني، ولكنها غنت أيضا وصلة قبل فكروني.
كانت الوصلة الأولى من نصيب أغنية “بعيد عنك”، وهو اللحن السادس لبليغ مع كوكب الشرق، والمرة السابعة التي تغنيها فيها، والتي غنتها لأول مرة في حفلة نادي الضباط بالزمالك عام 1965، وقد غنتها امتثالًا لطلب الرئيس جمال عبد الناصر، رغم إنها لم تكن مقررة بالحفل.
بعيد عنك التي خرج فيها عازف الناي سيد سالم عن اللحن بشكل جميل ومبهر، ورد أم كلثوم السريع بكل سعادة واستغراب “أيه ده!”، كان ذلك في حفلة في نفس العام ولكن قبلها بست شهور وفي نفس المكان مسرح قصر النيل.
غنت أم كلثوم بعيد عنك في 50 دقيقة، وكأنها تحفيز لما هو قادم، استعداد الفرقة للوصلة الثانية المنتظرة والمترقبة، الأغنية التي نشرت كل الجرائد صباح يوم الحفلة كلماتها.
بعد غناء متقطع دام لأكثر من تلت ساعات، بين الوصلة الأولى “بعيد عنك”، والوصلة الثانية “فكروني”، آما آن لأم كلثوم أن تستريح، وتنهي الحفلة!، ألم يصيبها التعب، ألم تشتك أحبالها الصوتية!، ألم يمل الجمهور ويغادر الحفلة!
أم كلثوم تؤكد إنها أسطورة، تضرب بكل الاحتمالات والتوقعات عرض الحائط، أتذكر تسجيل نادر مع فرقة أم كلثوم، عندما سأل المذيع أعضاء الفرقة في استراحة بين وصلتين عن الأغنية القادمة، موضحًا إن الجمهور معتقد إنها ستغني “أنت عمري” الوصلة القادمة، ولكن كان الرد إنها ستغني “للصبر حدود”، وتعجب المذيع قائلًا: بس الناس كانت متوقعة إن الوصلة القادمة أنت عمري”، فما كان من الفرقة ألا الرد البسيط والمختصر: “وإحنا كمان كنا فاكرين كده!”.
لم تكتف أم كلثوم بالوصلتين، ولم تكتف بالغناء تلت ساعات وأكثر، منهم ساعتين و23 دقيقة متواصل، لتقرر تقديم وصلة ثالثة في الحفل، وتختار من بين أغانيها، الأغنية الأعظم في تاريخها الفني خاصة، وتاريخ الأغنية العربية عامة، لتغني الأغنية التي غنتها أول مرة في نفس المكان بتاريخ 1966-04-07، لتغنيها للمرة السادسة.
قررت أم كلثوم أن تغني رائعتها “الأطلال”، كان يجب أن يكون الختام سنباطيًا، التحرك بين الزمن، من بليغ إلى عبد الوهاب، ونهاية بالسنباطي في رائعته الأطلال، وكلمات إبراهيم ناجي الخالدة، غنت أم كلثوم الأطلال في 60 دقيقة، غنت أم كلثوم الأطلال وصوتها في قمة نشوة لا تشعر بأي إجهاد أو إرهاق في صوتها.
قررت أم كلثوم أن تجعل هذه الحفلة أسطورية، كشخصيتها، جعلتها أسطورة في بساطتها، أم كلثوم لم تفعل شيء غريب أو جديد، كل ما فعتله إنها غنت في حفلتها كالمعتاد ثلاث وصلات من بينهم أغنية جديدة.
ولكنها بساطة تعجز من يراها، غنت أم كلثوم هذا اليوم أكثر من أربع ساعات، أربع ساعات تقف أمام الجمهور تغني بكل قوتها وعظمتها، أربع ساعات يجلس الجمهور أمامها دون أي ملل، أو رغبة في الخروج.
كل ذلك حدث في حفلة قصر النيل بتاريخ 1 /12 / 1966، ومع النظر مرة أخرى لتاريخ الحفلة، تعلم إنها فعلت كل ذلك وهي عمرها يتقرب من العقد السابع، للدقة كان عمرها وقتها 68 عام، 68 عام وتقف لتغني أربع ساعات دون أي شكوى، دون أن يقل صوتها أو يجهد، هي أم كلثوم وهذا كل ما في الأمر.
نشر في موقع كسرة عام 2015
You must be logged in to post a comment.