كان الشاعر الغنائي محمد حمزة يرفض تصنيف كلمات الأغنية، بين شعبية ورومانسية ووطنية، إلى نهاية التصنيفات، كان يرى أن على الشاعر إجادة التعبير عن كل الحالات الاجتماعية والإنسانية، وتقديم أغلب اﻷنواع دون تصنيفها في شكل محدد. ربما أثّر عليه هذا في انتشاره هو نفسه، بالمقارنة بأعماله، وبالشعراء الآخرين.
كتب محمد حمزة، الذي تمر هذه اﻷيام ذكرى وفاته وميلاده سويًا، ما يقارب من 40 أغنية لعبد الحليم، وشكل ثنائيًا بصحبة بليغ حمدي، الذي لحن ما يقارب من نصف أغاني حمزة، ويبلغ عددها حوالي الـ1200 أغنية، وساهم الاثنان بشكل كبير في إضافة خصوصية على تجربة عبد الحليم الفنية.
رغم رفض محمد حمزة للتصنيف، إلا أنه كانت لتجربته الغنائية ملامح وسمات وبصمة واضحة تميِّزه عن غيره من شعراء جيله، أو الأجيال السابقة. أهمها مثلًا الحدوتة، التي كانت البطل الرئيسي ﻷعماله.
وكان لعبد الحليم حافظ النصيب الأكبر من شكل “الحدوتة”، وتليه وردة. في أغنية “تبتدي منين الحكاية”، التي لحنها بليغ حمدي وغناها عبد الحليم حافظ وكتبها هو، يقول:
“تعالى نقول لغيرنا أنا وانت إزاي قدرنا
نبعد عن أي عذاب
ونعيش على طول أحباب
نحضن فرحتنا سوا
ونخلي الحب شباب”.
مشهد سينمائي؛ هناك دائمًا زمن وقصة وأبطال وأحداث. يتحرك حمزة بين الحوار والأسئلة والوصف. نرى هذا في أغان مثل “العيون السود” مع وردة، و”زي الهوا”، “حاول تفتكرني”، “نبتدي منين الحكاية” و”موعود” مع عبد الحليم حافظ، وكلها بالطبع بصحبة بليغ.
حتى عند رجوعنا لأول أغنية له، وهي “مخاصمنا”، والتي غناها محمد عبد المطلب ولحنها رياض السنباطي، ويقول فيها: «في الأول كان لما يشوفنا بيطير من الفرحة ويتبسم.. دلوقتي كإنه مايعرفناش، زعلان كده ليه مش يتكلم.. اتغير أوي من ناحيتنا»، نرى السرد واستخدام الزمن، وشرح ما قبل الحالة وبعدها، ورسم صورة واضحة للموقف.
“جانا الهوى” أحد أهم أغاني فيلم “أبي فوق الشجرة”، وأكثر أغنية توضح قصة الفيلم. كُتبت الأغنية وغُنَّت قبل الفيلم بعدة سنوات، ما يؤكد على بحث حمزة دائمًا عن القصة والشكل السينمائي للأغنية.
يتحرك محمد حمزة من خلال إطار عام لحالة ما. يرصد الحالة بكل بساطة، ولا يضع صورًا مركبة أو أسئلة وجودية مثلما يفعل حسين السيد ومأمون الشناوي، ولا يدخل في تفاصيل الحالة والمشاعر كما يفعل عبد الوهاب محمد، وإنما يهتم بإطار الحالة فقط، وبالتعبير عنه بصور مختلفة.
“يا عيوني.. آه يا عيوني
إيه جرى لك؟ فين إنت وبتعمل إيه؟
يا ظنوني..آه يا ظنوني
ما تسيبوني، مش ناقص أنا حيرة عليه”
تؤكد هذه الفكرة أغنية “سواح”، أغنية التعارف والتعاون بين حمزة وبليغ وعبد الحليم. يحكي حمزة في أكثر من برنامج تليفزيوني أن الأغنية لم تصل عبد الحليم حافظ إلا على هيئة مذهب، عن طريق بليغ. التقى الثلاثة في نفس اليوم، وطلب عبد الحليم حافظ، الذي دار اللقاء في بيته، من حمزة إكمال الأغنية في عشرة أيام، كما طلب أن تكون الأغنية جميلة مثل أغنية فايزة أحمد “أؤمر يا قمر”، ليؤكد لحمزة أنه يعرفه وسمع بداياته مع فايزة. يومها كتب محمد حمزة مقطعًا ثانيًا للأغنية، ليؤكد قدرته على كتابتها كاملة.
يحدد حمزة الحالة، ويستمر في التأكيد عليها وعلى المشاعر المصاحبة لها بشكل عام، دون الاهتمام بتحديد الأسباب، أو تفاصيل المشاعر. فعندما كتب “حاول تفتكرني”، والتي يقال إن عبد الحليم غناها لحبيبته “سعاد حسني”، أكّد على فكرة البعد بين العاشقين، دون تحديد أي أسباب، لكن البطل هنا كان مشاعر الشوق والوحشة والتيه والحزن.
“من الليالي الليالي، من بعدك واللى جرالي
سهرنى الشوق، دوقني الشوق، طعم الحرمان في الليالي
ياما أيام ضاعت يا سلام
في عذاب وآلام، سهران ما بنام
قضيت الليل مع قمر الليل ونجوم الليل نحكي في كلام”
كان محمد حمزة دائم التفاخر بقدرته على تفصيل الأغاني على مقاس عبد الحليم، وحدث ذلك أكثر من مرة، كما تميز بتحويل القصة الواقعية لأغنية، محافظًا على المشهدية في الكلام.
“حتى الكوارث تستغلها يا حمزة؟” هكذا قال عبد الحليم حافظ لحمزة، بعد كتابة أغنية “زي الهوى”، والتي نقلت تجربة عاطفية عاشها حليم، وانتهت بزواج حبيبته من أحد أقرابها.
“وخدتني ومشينا والفرح يضمنا..
ونسينا يا حبيبي مين انت ومين أنا
حسيت إن هوانا حيعيش مليون سنة
وبقيت وانت معايا الدنيا ملك إيديا..
أأمر على هوايا تقول أمرك يا عينيا
وف عز الكلام .. سكت الكلام .. وأتاريني
ماسك الهوى بإيديا، ماسك الهوى”
كان حمزة يكره التصنيفات، وكثيرًا ما لعب مع التراث، سواء غير المصري، في أغنية مثل “مداح القمر” التي غناها عبد الحليم، بمقطع “قدك المياس” المستعار من التراث الحلبي، أو المصري غير القاهري، في أغنية مثل “الخيزرانة” لمحمد رشدي، و”عيون بهية” لمحمد العزبي، و”حكاية وردية” لمدحت صالح، وغيرها.
لكن رغم هذا، يظل حمزة ابن القاهرة الشعبية، بكل ما تحمله من بساطة في المفردات والأجواء. لم تكن لديه مفرداته الخاصة كعبد الرحيم منصور، ولم يأت بثقافة معينة وخاصة محاولًا إدخالها في اﻷغاني كعبد الرحمن الأبنودي، وإنما جاء بمفردات المكان الذي أتى منه، القاهرة.
كان يحاول جاهدًا التقليل من الفصحى في أغانيه، ونقل صور شعرية بلغة عامية. حكى في برنامج “نجم ومشوار” أنه يحب المتنبي ودائم القراءة له، وأنه قرأ عبارة “قبض الريح” في أحد قصائده، فبقيت العبارة في ذهنه، حتى استخدمها في أغنية “زي الهوى”، بصورة بسيطة ومفردات عامية مثل “ماسك الهوا بإيديا”.
هذه الميزة قرّبت أغانيه من أذن الجمهور، والذي كان يتعلق بمفرداته ويحفظها بسرعة. ربما لهذا السبب أصبحت أغانيه أشهر منه هو، فالجميع يعرفون أغنية “عاشقة وغلبانة”، و”زي العسل” لصباح، و”حلوة الدنيا سكر” لشادية، و”حكايتي مع الزمان” و”طب مالي وأنا مالي” لوردة، ولكن القليلين فقط من يعرفون اسم محمد حمزة.
حتى عندما كتب حمزة للأطفال، كانت اللغة الدارجة القاهرية هي أساس الأغنية، وكانت مفرداتها قريبة من مفردات الأطفال، فكتب كل أغاني برنامج “زهور من نور” لصفاء أبو السعود، بعد نجاح الأغنية التي كتبها وغنتها “ياللا نقضي أجازه سعيدة”.
استمر عطاء حمزة حتى أجيال لاحقة له، فكتب لأصالة ومدحت صالح وكاظم الساهر، ورحل في 18 يونيو من عام 2010، قبل أيام من الاحتفال بعيد ميلاده السبعين، وأيام من الاحتفال بذكرى عيد ميلاد رفيقه عبد الحليم حافظ.
نشر في مدى مصر عام 2016