شريف حسن
لا يهتم أبي بالمزيكا؛ لا يشتهي الست، ولا يحب عبد الحليم، لكنه ينصت بكل حواسه لدى سماع صوت محمد عبد المطلب، كأنه ينصت احترامًا وتقديرًا لشخصه قبل صوته. عبد المطلب يغني، إذن لننصت.
إنه أبو نور، أو “طِلِب” كما كان يحب أن يناديه الناس في الشارع، صاحب البصمة الفنية الفريدة، والشكل الغنائي الذي تفرد به عن باقي أسلافه ومعلميه، وعما كان سائدًا قبل ظهوره.
رحلة طويلة خاضها “طِلِب“، والذي مرت هذه ايام ذكرى رحيله، من الاجتهاد والتعامل مع الفشل والخسارة والاكتئاب، حتى أنه وصفها في برنامج “حديث الذكريات” مع الإعلامية أمينة صبري بأنها كانت مليئة بـ “شوك ومطر وتراب وجوع وملح، وفي الأخر السكر بقى.. كله سكر دلوقتي“. هكذا كانت رحلة “طِلِب” في عينيه، أو كما قال “أجبرت نفسي أكون عبد المطلب“.
نحن إذن أمام شخص يعترف بإجبار نفسه على التفرد والخصوصية، وهذا ما يتضح من أعماله الفنية وتاريخه الموسيقي وسيرته الذاتية ومواقفه وتأثيرات الحياة عليه وتجاربه فيها.
بناء “طِلِب” لشكله الخاص في الغناء، وصناعة أغنية شعبية جديدة، لم يقوما على نصوص تراثية، أو ألحان متعارف عليها في آذان العامة. لم يكن امر هينًا بالطبع، وإن كان يوضح لنا رؤية أبو نور للأغنية الشعبية، وبعثه لها بشكلها الخاص به، وكيفية مواجهته للتطورات الموسيقية والاجتماعية، ونجاحه في التواصل بها مع كل الوطن العربي، وليس مصر فقط.
موسيقى الطفولة.. سلطانة الطرب وكروان مصر
في مدينة شبراخيت بمحافظة البحيرة، ومع بدايات القرن العشرين، تحديدًا في 13/ 8/ 1910، ولد محمد عبد المطلب. درس الطفل في كُتَّاب المدينة، عشق الأنغام والموسيقى وفتن بالغناء وبالهالة المحيطة بالمطرب. كانت البداية مع استماعه في أفراح المدينة لأكثر من تأثر بهم موسيقيًا في طفولته؛ الست منيرة المهدية، الملقبة بـ “سلطانة الطرب“، وعبد اللطيف أفندي البنا، الملقب بـ “كروان مصر“، والذي جمع بين غناء القصائد والموشحات الدينية والأدوار، وغناء طقطوقات “العوالم” و“الخليعة“، كأغنية “ارخي الستارة اللي في ريحنا“، أو “إيه رأيك في خفافتي؟”.
أصبح الهروب من الكُتّاب للغناء في الغيطان أجمل ما يفعله الطفل يوميًا.
عُرف غرام “طِلِب” بالغناء في المدينة؛ يجلس في المقهى يستمع للأغاني ويحفظها، ويشتري كتبًا تحمل كلمات الأغاني بمصروفه الأسبوعي “قرش تعريفة“، ليغنيها بعد ذلك في الغيطان. حتى اتخذ شقيقه الأكبر المؤمن بموهبة أخيه القرار، فكان السفر للقاهرة.
وصل “طِلِب” القاهرة المحروسة في 25/ 10/ 1925، وكان قد أكمل عامه الخامس عشر.ومع فشله في معهد الغناء، وإدراكه أنه شغوف بالغناء أكثر من دراسة الغناء، قرر إحياء حفل على حسابه، وبمساعدة بعض المعارف والأصدقاء في مسرح الأزبكية.
وكان الفشل بالطبع هو ناتج التسرع وحب التجربة.
مدرسة داوود حسني.. غناء وضرب وأذان
ينتقل الطفل إلى سن المراهقة، ويبدأ الصوت في التكون؛ يلزم تدريبه كي يصبح في طوع صاحبه. كانت المدرسة الأهم في مسيرة “طِلِب” هي تتلمذه على يد أحد أهم رواد الموسيقى في مصر “داوود حسني“. في “حديث الذكريات” يحكي “طِلِب” أنه تعلم من حسني الأداء والرتم وتمارين الصوت، حيث أمره اخير بأن يبحث عن مسجد ويؤذن فيه الفجر كل يوم، حتى يدرب صوته، خاصة في فترة الصباح. ونفذ “طِلِب” الأمر وواظب عليه لمدة سنة.
كان داوود يضرب “طِلِب” كأنه تلميذ صغير في الكتاب حتى يتعلم بشكل صحيح، وكل ذلك أثّر في صوته وقدراته الغنائية، وخاصة في التنقل بين المقامات بسلاسة، واستغلال حنجرته الجبارة. وفي النهاية ألّف له داوود لحن أغنية “ودّيني بلد المحبوب“.
كان صوت “طِلِب” في هذه المرحلة مختلفًا تمامًا عما نعرفه الآن، حيث كان أقرب إلى صوت نسائي، ولكن اسم محمد عبد المطلب الذي يتردد في بداية تسجيل الاسطوانة يؤكد إنه هو.
عبد الوهاب يخلف وعده.. وطلب ينجح
كل ما سبق كان مرحلة تدريب وصقل للموهبة، مرحلة ملء الذاكرة بالأغاني والمواويل والأدوار وطرق الغناء الصحيحة.
بعدها بدأ “طِلِب” في البحث عن نفسه في فرقة بديعة مصابني، حيث كان يقدم أول فقرة، وكان أقل الفنانين شهرة في المكان، ومع حلِّ بديعة للفرقة ورجوعها لبنان، لم يجد طلب مكانًا يطلب منه العمل والرزق، إلا مكتب الأستاذ محمد عبد الوهاب، والذي طلب منه أن يجد له عملًا يضمن منه قوت يومه، فضمَّه عبد الوهاب لفرقته ليصبح من ضمن المذهبجية “الكورس“، ويسجل معه عدة أغان كان أشهرها دور “أحب أشوفك كل يوم“.يقول “طِلِب” تأكيدًا على فضل عبد الوهاب عليه: “عبد الوهاب ربى صوتي“.
كما كان صالح عبد الحي وزكريا أحمد مهتمين بـ “طِلِب“، حيث بدأ يشاركهما الأفراح ويستضيفاه في بيوتهما. كانت الغالبية ترى في صوته موهبة حقيقة، وإصرارًا على تكوين شخصية فنية مستقلة.
ولكن عبد الوهاب يخلف وعده لـ “طِلِب“، بأن يسافرا معًا إلى باريس لتسجيل أغاني أول أفلامه “الوردة البيضاء“. يحزن “طِلِب” ابن البلد مما فعله معه الأستاذ، ويقرر تركه، ليقول تعقيبًا على ذلك الموقف في البرنامج: “وده كان سبب نجاح محمد عبد المطلب”.
“بس أنا مُصر أبقى محمد عبد المطلب“
هكذا قال “طِلِب“ عن فترة ما بعد عبد الوهاب، فترة البحث عن شكله الخاص، وقلة المال ومسئولية الزواج والأسرة، والغناء في أماكن مختلفة والفشل وهتاف الجمهور ضده والبكاء خلف الكواليس.
كان أثناء عمله مع بديعة قد تعرَّف على الملحن والمطرب الشاب “محمود الشريف“. ومع عرض من شركة بيضافون، سجل “طِلِب” ست أغان، وتقاضى على كل أغنية جنيهين، وكانت من ضمن الأغاني أغنية “بتسأليني بحبك ليه.. سؤال غريب ماجاوبش عليه” مع صديقه محمود الشريف.
ثنائية النجاح.. “طِلِب” والشريف
كل منهما وجد نفسه في إبداع الأخر، وجد حلمه وضالته ونجاحه؛ كانت حنجرة “طِلِب” هي النموذج الأمثل في مخيلة محمود الشريف، وكان “طِلِب” يبحث بعد كل هذه التجارب عن نفسه، كيف سيقدم نفسه للجمهور، وكيف يصنع نفسه بنفسه ويجد خصوصيته الفنية. كان تصوره عن الأغنية الشعبية يقوم على بساطة الكلام وسهولته، والموسيقى القائمة على استغلال الحنجرة القوية التي يمتلكها، مع فَرد مساحات لصوته ومواويله، وتقطيع الأغاني بالموال، وترك الصوت ينجلي ليدخل القلب بسهولة.
وقوَّى العلاقة فيما بعد زواجُ “طِلِب” من شقيقة زوجة محمود الشريف، ما جعل العلاقة فنية وعائلية في نفس الوقت.
طعم الفشل
أخيرًا تذوق “طِلِب” النجاح والشهرة، وبعد نجاح أغنية “بتسأليني بحبك ليه“، قدم له رياض السنباطي، بعد أن رأى فيه لونًا له خصوصيته، لحنًا هدية، وهو أغنية من أحلى أغاني “طِلِب” “شفت حبيبي وفرحت معاه“. كما قدم له أيضًا بعد ذلك أغنية شديدة الجمال، وإن كانت غير مشهورة، هي “جميل وبخيل“، كلمات محمد على أحمد.
زاد النجاح والمال أيضًا، فقرر “طِلِب” خوض تجربة التمثيل والإنتاج السينمائي، حيث أنتج فيلم “الصيت ولا الغنى“، ولكنه فشل وخسر ماله، فقرر الاعتزال. وقف أمام نفسه بعد أن ذاق الفشل والنجاح، ارتبكت المشاعر، واختلطت الأوراق، وسكن الصوت وتاهت الحنجرة، ولولا تدخل صديقه محمود الشريف وإقناعه بالعودة للغناء، لما عاد للحياة مرة أخرى. كان محمود الشريف يعرف أن حنجرة “طِلِب” لن يأتي مثلها، وأن أحدًا لن يستطيع تقديم الألحان التي يصنعها له، وهي من أسباب نجاح الشريف قبل نجاح “طِلِب“.
تغيرات ما بعد الثورة
مع عودته للعمل وعودة النجاح، ومحاولة تأكيده على شكله الخاص في الغناء، كانت الأجواء تتغير كذلك من ناحية الموسيقى والحالة الاجتماعية للشعب، فمع قدوم محمد الشجاعي مشرفًا علي الموسيقي والغناء في الإذاعة، جعل “طِلِب” يقدم أغاني بها آلات غربية، كأغنية “يا بايعني وأنا شاري“، أو “يا أهل المحبة“، ورغم نجاح هذا الشكل من الأغاني، إلا أنه لم يجد نفسه فيه، وهو الباحث دائمًا عن نفسه فقط لا غير؛ لم تغوه الآلات الغربية، حتى إنه رفض أغنية “الليل موال العشاق” لمنير مراد.
كان طلب قد سأل مراد: “مش عاوز تخش التاريخ يا منير؟“، وعند استفسار اخير عن كيفية ذلك، كان رد “طِلِب” بكل بساطة ودراية بمكانته الفنية والمتفردة: “اللي يلحن لعبد المطلب يدخل التاريخ“، ولكن بعد تلحين مراد رفض “طِلِب” اللحن لأنه على إيقاع الجيرك، قائلًا بخفة دمه المعروفة: “روح إدّي اللحن ده لفرانك سيناترا يا منير“. فيما بعد غنت شريفة فاضل الأغنية التي نجحت نجاحًا كبيرًا.
طلال فيصل.. بليغ وطلب
الموسيقى لا تزال تتطور، وذائقة الناس لا تزال تتغير، تقتحم الآلات الغربية الموسيقى الشرقية تدريجيًا، وتعتلي المنصة مع الانفتاح في السبعينات، بينما “طِلِب” يقف حائرًا بين حبه وعشقه للتخت الصغير والفرقة ذات الأفراد القليلة والآلات الشرقية، وبين مطالبات السوق ومواكبة التطور. هنا نقرأ مقطعًا من رواية “بليغ” الصادرة قريبًاللكاتب طلال فيصل، ويتحدث فيها فيصل عن بليغ “طِلِب” وفيلم “5 شارع الحبايب“.
“الفيلم الرابع فيلم لا يذكره أحد، هو فيلم ٥ شارع الحبايب، وبعيدًا عن محاولة جعل محمد عبد المطلب يغني على موسيقى الجيرك، مرتديًا باروكة، في أغنية يابو قلب دهب!فإن موسيقى الفيلم، وتحديدًا أغنية “نقش الحنة” هي رسالة امتنان من الفتى لصاحبيه الأثيرين، محمود الشريف وطِلب؛ العودة لتقاليد التخت، الجملة الفلكلورية، تغيير الإيقاع والجُمل الموسيقية القصيرة، مثلًا جملة “شاريين، وليه أنتم بايعين” ثم المزج بين الناي والإيقاع في “وحياة الحب اللي ما بيننا“. هذا أسلوب محمود الشريف بامتياز، المنسيّ، صاحب “ودّع هواك“، و“رمضان جانا“، و“ما بيسألش عليا أبدًا“، إلى آخر القائمة المفعمة بالشجن.”
مفهوم الأغنية الشعبية
لفهم مفهوم الأغنية الشعبية لدى “طِلِب“، بعد كل ما سبق، لا يوجد أكثر وضوحًا مما جاء على لسانه قائلًا: “أنا اللي كونت الشخصية دي لمحمد عبد المطلب، حبيت ولاد البلد، ولاد الشارع، ولاد الحارة، ولاد القهوة البلدي، بقيت من الناس“.
وفي تسجيل في بلد المغرب قال أيضًا: “أحب أن يكون الشخص لابس بدلته وكرافتته الخاصة، دون تقليد أحد. أنا وقفت على أرض ما تنازلتش عنها، وأصريت أكون محمد عبد المطلب“.
هكذا كان “طِلِب“، يغني لابن البلد والمناطق الشعبية، يحب غناء الأفراح والتواصل مع الناس عن قرب، يتناغم مع الموسيقى، يعيد ويكرر ويخرج من الأغنية للموال، ويعود مرة ثانية مبتهجًا بقدرته على غناء الموال بكل سهولة وجمال.
الليلة الحنة وبكرة الدخلة
أم كلثوم هي التعبير الأمثل عن الموسيقى المصرية خاصة، والشرقية عامة.
كانت الست تحب صوت “طِلِب“، وتعرف قدراته الفنية، وتعرف أيضًا أنه قدم نوعًا جديدًا وخاصًا به في تاريخ الموسيقى المصرية. وكان عامة الناس يدركون إن “طِلِب” والست هما اكتمال لشكل الموسيقى المصرية الخالصة، حتى أن “طِلِب” حكى للإعلامية أمينة صبري أنه كان يغني يوم الأربعاء في الإذاعة، والست يوم الخميس، وكان الناس في الأرياف يطلقون على الأربعاء “يوم الحنة” والخميس “الفرح”.
الوطني والديني بنكهة شعبية
أصبح “طِلِب” بعد نجاحه ممثلًا عن الطبقة الكادحة من الشعب، وبالتالي كان من اللازم استغلاله من قبل الدولة لتقديم أغان اجتماعية دينية وطنية، فقدم ابتهالات أغان دينية كثيرة، محافظًا على الشكل الغنائي، تأكيدًا على خصوصيته.
كما قدم أغاني وطنية كثيرة، للثورة وللسد العالي وللوحدة مع ليبيا وسوريا وسائر الدول العربية. أصبح مصدرًا شديد اهمية للدولة، لقدرته على التواصل مع فئة هي الأكثر عددًا في المجتمع، وبسهولة وألفاظ بسيطة غير مركبة.
وبين الأغاني الاجتماعية، تبقى بالطبع رائعة محمود الشريف، “رمضان جانا“، هي الأعظم لاستقبال رمضان في الوطن العربي.
مطرب العرب
لا يُحسب لـ “طِلِب” فقط تقديمه أغنية شعبية بنكهة جديدة ومصنوعة في نفس الوقت، غير مرتكزة على التراث بشكل مباشر، ولكنه قدم مساحة مفتوحة من المواويل والطرب، جعله له تًفردًا خارج مصر أيضًا.
كانت لعبد المطلب مكانة خاصة في أغلب دول الوطن العربي، حيث غنى في بداياته في فلسطين، وعاش فترة في العراق، وغنى في لبنان والكويت، وكانت لبلاد شمال أفريقيا مكانة خاصة في قلب “طِلِب“، وكانت له مكانة خاصة هناك.
ملك الموال
ظل “طِلِب” حتى آخر أيامه يغني الموال بكل ثقة وتمكن، يهواه ويرى فيه حرية الصوت وتجلي الحنجرة، حتى أنه كان يعتبره الوسيلة الأغلى في التعبير عن المشاعر. في بدايته ألف موال “ياللي وضعت الأمل فيك“، وغناه للراقصة والفنانة حكمت فهمي، والتي كان واقعًا في غرامها في بداياته، وهناك أيضًا موال للمديح في جمال عبد الناصر، اسمه “موال أبو ناصر“، والخلاصة أن المواويل موجودة في أغلب بدايات أغاني “طِلِب“، وفي قلبها أيضًا.
مدرسة “طِلِب” الفنية للأغنية الشعبية
رحل محمد عبد المطلب بعد عيد ميلاده السبعين بأقل من عشرة أيام، بعد ما ترك مدرسة فنية، نشأ على أعتابها الكثيرون، كمحمد رشدي ومحمد العزبي وأحمد عدوية، وكان لكل منهم شكله الخاص فيما بعد، ولكن يبقى الفضل والبداية دائمًا لمدرسة “طِلِب” الفنية.
نشر في موقع مدى مصر عام 2016