شريف حسن
“لا وأنت الصادق: ديوان التسالي بالمزاج والقهر”، هذا هو اسم أحد دواوين فؤاد حداد، والذي تمت كتابته في عام 1981، وقُسِّم لأربعة أبواب: باب المقدمة، وباب هنيًا ودايمًا، وباب الطاولة والشايب، وأخيرًا باب الشاعر في الجنة وإخوان الصفا.
حداد مغرم وعاشق لمصر على الدوام، عشق لا يتغير مهما لاقى من قهر، عشق بالمزاج، وهنا يحدث ذلك بالتسالي أيضًا..
يفكر حداد في مصر في كل الأوقات، وهي ساكنة في كل أشعاره، يبحث عنها تارة وتفرض نفسها تارة أخرى، وهو مغرم بالشعر في الأصل. كان حداد يحلم في صغره، بأن يصبح فارسًا يحرر العالم بسيفه، يحلم ألا توجد فروق بين الناس، وعندما علم أن ذلك لن يتحقق بالسيف، قرر أن يكون شاعرًا؛ يحفر طريقًا جديدًا في شعر العامية، ينقله من مكانة إلى مكانة أعلى وأرقى -وهي ما وصل إليه شعر العامية الآن من مكانة واحترام- يربط بين أشياء لا يمكن الربط بينها، يخترع أشكالًا مثل ديوان “رقص ومغنى”، بما فيه من كلام على لسان الحيوانات وربطها بشخصيات، واختلاق وجه تشابه بين الحيوانات والإنسان.
تكمن صعوبة الشعر، وخاصة العامية، في الإبقاء على الفكرة وسط القافية، ومع هذا الصراع الدائم بين الفكرة والقافية، وكيف تعبر عن الفكرة بكلام سهل وعامي، أو أن تحافظ على الموسيقى، تبقى قصائد حداد من أصعب ما يكمن قراءته في الكتابة العامية، يجب أن تجد الموسيقى أولًا، كي تستطيع فهم ما تقرأ، كي لا تمل، كي تجد حلاوة الشعر وتستطعمها، وهو أمر بالغ الصعوبة في كثير من الأوقات.
في القسم الثاني من ديوان “التسالي بالمزاج والقهر”، والمسمى بــ “هنيًا ودايمًا”، كتب حداد عشرة قصائد، كان الرابط بينها هو علاقتنا بمجموعة نباتات عطرية، ذات روائح نفاذة وقوية، مثل “البن”، “موال القرفة”، “سكران الكراوية”، “فزورة الجنزبيل” و”المغات”، هكذا بكل سهولة يكتب حداد عن المشروبات الأقرب للشعب المصري، قصائد تشعر إنها كتبت على قهوة بلدي، ورغم ذلك تغرق تلك القصائد في الفلسفة.
يخدعك باسم القصيدة، يستمر في الخداع: كل مقطع في القصيدة ما هو إلا فخ جميل تقع فيه لفترة ثم تنهض لتكمل مسيرتك في دروب القصيدة بعد أن تعلمت من الفخ الأول، محترسًا من السقوط مرة ثانية، ولكن ستسقط بالتأكيد في فخ جديد، هكذا تكون قصائد حداد: فخاخ منصوبة بالجمال واللغة، تجذبك للسقوط والاستمتاع، ربما تسير في القصيدة تبحث عن فخاخها، إنه الشعر وجنونه.
القصيدة عن حداد ما هي إلا تداعي حر، من اسم القصيدة وحتى ناهيتها، من فكرة القصيدة للحبيبة للوطن، لغرامه بالتفاصيل الصغيرة، لجزء كبير من الذاتية والحديث عن طفولته، للتاريخ وجغرافيا المكان، كل قصيدة له دسمة المعاني والصور.
قصيدة اليوم هي قصيدة “أطيب من شراب الورد”، شراب الورد الذي يقدم في الأفراح، قرر حداد أن يكتب قصيدة عنه وله، ولكنه يتحدث في البداية عن الأنثى، وغالبًا هو لا يحدد ماهية الأنثى، إن كانت الحبيبة أو الزوجة أو مصر، يتغزّل في الأنثى غزلًا جميلًا، يتنوع من غزل عفيف، كبداية النص «سندريلا في الغابات.. شقرا زي القمح الأسمر»، أو غزل صريح كنهاية النص «أنا حبيت البيات في شفايف أُبهه تحت ظلة مناخيرها كنت أموت في حبها»، الكلام هنا على لسان شراب الورد أم غزل رجل لأنثى؟ هكذا يصنع حداد الجمال.
الصور الشعرية عند حداد بسيطة لدرجة تسحرك، تقف أمام الجملة صامتًا من هول الجمال، مثل ما قال: «قلبي يعرق من خدودها»، أو مقطع «الكلام عاوز يعيش.. سهل لو يصبح تسالي.. صعب لما يكون مثالي»، هكذا بكل سهولة يختصر كتبًا وأحاديث وتاريخ في جمل بسيطة، كل كلمة في موضعها، لا تستطيع أن تبدل كلمة بأخرى.
وهو يتحرك من الغزل للسياسية مثل جملة: «عندي أخت فيتنامية»، غير المفهومة، أو جملة «لما مات تحت السنابك ما نسيهاش».. تداعي حر؛ من السياسية للشعر ومن الشعر للجغرافيا والمكان والصعيد، كل ذلك ونحن في حضرة شراب الورد، مشروب الأفراح.
في قصيدته عن الأملي طرح حداد سؤالًا وجوديًا، دائمًا ما تشغله هذه الفكرة ونقيضها، وهو لا يفرض رأيه في القصيدة، يسأل بكل بساطة: «والأمل راح يبقى شاعر والا راح يبقى شهيد»، ما العلاقة بين الأمل والشاعر، وما العلاقة بين الشاعر والشهيد، وهل يمكن أن يصيب الأمل الشخص بالموت، أو تحديدًا بالشهادة، وما هو مفهوم الشهادة هنا، وهل المقطع له مقصد سياسي، وما موضع ذلك في الأصل من قصيدة عن شراب الورد؟، أسئلة كثيرة ولا إجابة إلا بداخلك أنت، حداد لا يطرح إجابات أو حلول، ولكنه يثير التساؤلات، يصنع الرابط بين الأشياء ويترك مهمة فكه لك، كي تعرف كيف تم ربطها بالأساس، كالطفل يحاول اكتشاف لعبته الجديدة.
وبذكر الأطفال يقول حداد في القصيدة، متحدثًا عن نفسه “كنت طفل عيوني أوسع من هدوم العيد وأطيب من شراب الورد يمكن كنت شعلة من الذكاء بس بيقولوا عبيط”، هكذا نقلنا في نصف القصيدة لذاتية خاصة جدًا، ولكنها جميلة، حتى دون معرفة سيرة حداد الذاتية، تشبيه اتساع العين باتساع ملابس العيد، العيد ومكانته الخاصة عند الأطفال، فخ من الفخاخ التي تحدثنا عنها سابقًا، فخ ذكريات العيد وملابسه، ولد حداد مفنجل العينين، ولم ينطق بأية كلمة حتى صار عمره ثلاث سنوات. ثم فجأة تكلم مثله مثل الكبار.
في النهاية، مهما تعمقت في قصائد حداد، سيبقى جزءًا منها عاصيًا على الفهم والتفسير، جزء خاص بها وبسرها، فنظل نحاول فقط المرور على بعض النقاط والزخارف الشعرية واللغوية والجمالية في قصائده.
***
أطيب من شراب الورد
عارف الورد في لغات
تانية كان اسمه الفراولة
سندريلا في الغابات
شقرا زي القمح الأسمر
ضفاريها سنبلة
قلبي يعرق من خدودها
في ثواني قليلة
شعت الدنيا وجودها
زي الشمس منملة
كان بيتهيأ لي دايما
يسمع الشربات كلامي
يبقى أحلى
عندي أخت فيتنامية
يقتلوني
الكلام ما بينتهيش
باحلم إني في ليالي
باتولد فيها زمان
الكلام عاوز يعيش
سهل لو يصبح تسالي
صعب لما يكون مثالي
كان صحيح ولاّ في خيالي
التاريخ اللي جرى لي
والأمل راح يبقى شاعر
ولاّ راح يبقى شهيد
كانوا شايلين المشاعل
وشراب التوت في إيد
وشراب طعم الصعيد
والجنانين من بعيد
كلها منجه وسماني
والنسيم حاطط وشايل
الخواطر والثواني
اللي ريحها ديواني
والعرايس على الصواني
في الحواري كلها
قصقصوا شمس ونجف
عملوها كبايات
أنا حبيت البيات
في شفايف أُبّهه
تحت ظلة مناخيرها
كنت أموت في حبها
كنت طفل عيوني أوسع
من هدوم العيد وأطيب
من شراب الورد يمكن
كنت شعلة من الذكاء
بس بيقولوا عبيط
حتى حافظ غنوة واحدة
ألف مرة ما نسيهاش
لما مات تحت السنابك
ما نسيهاش
خش في عيونه ترابك
ما نسيهاش
كان يرجعها الحياة
بالعمل زي الحواة
غنوة تبدأ من جديد
غنوة تبدأ لجل تبدأ
وأنتِ كاملة مكملة
زي شمس منمّلة
والضفاير سنبلة
وأنا نازل من الضفاير
كان شراب الورد داير
في العصور المقبلة
نشر في موقع مدى مصر عام 2015