شريف حسن
بين وحش الذكريات، الذي يبقى ولا يموت، “أعادوا طلاء السور مرارًا، بعد تلك المرة، لكنني مازلت أميّز أثرنا رغم ذلك” وفخ المستقبل الذي “يسمح لنا بانتقاء المشاعر التي تناسبنا من فوق أرفف ليس لها ذاكرة”؛ يدور الصراع في ديوان “هدايا الوحدة” للشاعر محمد خير والذي نشر قبل الثورة بوقت قليل.
ربما خلال الخمس سنوات الماضية، بكل ما جاء فيها من أحداث وتغيرات وثورات ودماء وثقل في والروح والجسد، خمس سنوات كانت كفيلة بأن تصيب القلب بالشيخوخة، أو ربما بالزهد، أو خبرة في خبايا الحياة وتقلبها.
هنا، ومع ديوان “العادات السيئة للماضي“، وهو الديوان الثاني له بالفصحى، يتجول خير في الذاكرة، يجلس في غرفة عالية ليتابع المشهد ببطء، يرصد التفاصيل الخفية كرجل أنهكته الحياة، يتابعها بشغف شاب وهدوء رجل اقترب من الأربعين، رجل يحصد ما عاشه، راضيًا بما حدث، سارحًا فيه، ملخصًا له في جمل مختزلة، وقصائد مكثفة.
بلا إهداءات، يبدأ خير ديوانه، تأكيدًا للهرب من مسمى شاعر، ديوان بعد خمس سنوات، الدخول في الأمر بلا أي مقدمات، كأنه لا يملك شيئًا كي يخاف عليه.
تشابه المشهد واختلاف الرؤى
رغم تشابه المشهدين في أول قصائد الديوان “ما لم يفاجئني”، والقصيدة القديمة “حل مناسب” من خلال نفس حالة الغرفة المنخفضة القريبة من البحر/ الشارع، كان الاستعداد النفسي والجسدي للوحدة وتقبله لها في قصيدة “ما لم يفاجئني” مختلفًا تمامًا مع قصيدة “حل مناسب”، ترى الفرق واضحًا في شكل الفعل. في القصيدة القديمة، يلعب خير دور الراوي، لا دور له في الموقف/ القصيدة: “لا مش تهيؤات؛ ده البيت بيوسع بجد، السقف بيعلى، والشبابيك بتوطّي تجيبلي الناس م الشارع، فجأة بقيت ساكن في ميدان متشرد في أوضتي”، اختلف الشكل تمامًا في الديوان الجديد، خير هنا هو سيد قراره، أصبح قادرًا على اتخاذ القرارات، والاستمتاع بالوحدة: “عرفتُ أنني سأرتاح طويلًا من الحب؛ فاتخذتُ فندقًا بحريًا وجعلت شرفتي منخفضة جدًا وقريبة، حتى إنني كلّما قلّبت صفحة كنت أبلل إصبعي في الموج”، ترى اختلاف الرؤية وتماسكها والبعد عن فخ الوحدة الدرامية وتحويل المأساة والحزن لمشهدية بسيطة، ليصبح حزنًا جميلًا.
“القصائد القصيرة”.. شعار الديوان والمرحلة
تقريبًا نصف قصائد الديوان قصائد قصيرة لا تتعدى المقطعين، وفي الأغلب مقطع واحد، قصائد الصفحة الواحدة، التكثيف هو الطريق، رصد الموقف بكل تفاصيله وغموضه، رحلة مركزة، يقذف خير القارئ في وسط المشهد، دون دليل إلا حدسك أنت وحدك لا شريك لك.
“كشرطيّ مرور
أشير
للأيام
كي تمر“.
كانت القصائد القصيرة، هي الشكل المناسب جدًا للمرحلة وللحالة العامة للديوان، الهدوء والتفكير بحكمة، لا لشيء إلا الوصول لحالة من السلام النفسي، حتى وإن كان مؤقتًا ولحظيًا. ولأسماء القصائد دور مهم جدًا في الديوان وخاصة في القصائد القصيرة، يدخل العنوان كأنه شطر من القصيدة، مثل “أريد، كشرطي مرور”، “ما حدث بعد ذهابك”، وتجد أيضًا اسم قصيدة “مثل عطور أو شيء من هذا القبيل”، هو تأكيد على حالة الديوان، تجاهل أشياء كثيرة، يرى خير أنها غير مهمة لتدوينها شعريًا، غموض يشبه التكاسل، تكاسل زاهد، لن يتغير شيء، سيبقى الماضي ماضيًا وستبقى العادات السيئة للماضي تتبعنا في كل مكان، إذن؛ فلنصادقها أو نتفق معها على هدنة لا يتبعها أذى، كقصيدة “وجهي عابس؟”، وتلخيصه للحياة بكل بساطة وهدوء، رغم أنه لم يعطك أي إجابات أو حلول.
“أحبك
فأفكر في الموت
ولا شيء يفسر ذلك“.
كانت هناك أيضًا قصائد كثيرة اسمها يلخص الحالة، اسم القصيدة يوضح الحدث الخفي في المشهد، يضع شكلًا آخر للنص، كلمة تجعلك تقرأ النص مرة ثانية. في الإعادة، ستبحث عن الرابط بين الاسم والنص، بين الوردة والجنون وما بينهما من انحناء: “أنحني، كي أكلم وردة، متخيلة”، لترى الجريمة، ولتكن المعجزة والوحي.
القصائد الطويلة.. الكتابة فن الحذف
يحتوي الديوان أيضًا على قصائد طويلة مقارنة بشكل الديوان وحالته، رغم طولها، لكنها حافظت على الروح العامة للديوان، الهدوء والرصد وبعض الغموض حول التفاصيل، رغم ذلك كانت هناك زيادات غير منطقية في بعض القصائد، ربما قتلت النص، أو أخرجته من حالة الغموض الجميل، أو حولته إلى صورة طفولية، كقصيدة الزمن، كان المقطع الأول منها كافيًا لإيصال المعنى: “بلا تردد، رفعت الكرة الأرضية، لم أجد تحتها شيئًا، فأعدتها مكانها، بحذر، كي لا تسقط أي دولة”.
وبعيدًا عن فكرة الحذف وأهميتها، لكن يؤخذ أيضًا على بعض القصائد الطويلة، من زاوية النهايات المستهلكة والصور البسيطة التي قد تقتل القصيدة ككل، كنهاية نص “ما لم يفاجئني” واللعب على فكرة الحقيبة الزوجية: «فحقيبتي، بعد كل هذه السنوات، أصبحت تبدو كأنها امرأتي”، أو التعامل مع الستائر أنها ريش منزلي لم يجرب أن يطير، في قصيدة ” أكوي الستائر“.
“تلك الحوادث”.. التجربة
ثلث قصائد قصيرة، “الطريق، الليل، الحب” كلهم تحت اسم “تلك الحوادث“، ثلث قصائد تؤكد فكرة أن الحب هو أكبر عامل مؤثر على حياة الإنسان، وربما هو شرح وافٍ للقصيدة القصيرة “وجهي عابس؟“، بعد الحوادث تأتي قصيدة التجربة: “لمدة شهر كامل تناولت بورخيس وبودلير معًا، فمرضت بالشكّ الكامل” وكأن التجربة هي نتاج تلك الحوادث، هي بداية التفكير في قصائد هذا الديوان، هذه التجربة الشعرية الجديدة، التي تؤرخ للتجربة العمرية السابقة، ربما لذلك ترى روح هدايا الوحدة، الحزن المكتوم، والوحدة السلبية بدرجة كبيرة، لذلك؛ من الطبيعي أن تكون القصيدة من قبل الثورة، ومن قبل نشر هدايا الوحدة.
“وتعرّقت أيًاما في غرفتي
محدقًا في الجدار
كمريض حصبة
يحاول خلق النافذة“.
وقد قامت المترجمة اليونانية “برسا كوموتسي” بترجمة بعض قصائد الديوان إلى اليونانية لتضمها في أنطولوجيا الشعر العربي في طبعتها الجديدة.
في نهاية الديوان، هو ديوان يجبرك على التفكير، ويدفعك للنقاش وللكتابة عنه، وهذا لا يحدث إلا مع القصائد القيمة، وتبقى الوحدة هي البطل الباقي، يستمر “خير” في إزعاج الأشياء حتى لا يشعر بالوحدة، كي لا ينام البيت.
نشر في موقع التقرير 2015