شريف حسن
“ملحوظة:
اكتبي ع المظروف
أسوان
زوجي الغالي
لوسطى حراجي القط
العامل في السدّ العالي”
هكذا أنهي الأبنودي الجواب الأول، وافتتح بها أيضا الجواب الثاني في الجوابات والأول لفاطنة، ربما هي صورة روتينية في كتابة الجوابات مُرغم عليها الأبنودي، ولكن استخدمها بهذا الشكل، أضاف عند سماع بداية الجواب الثاني شعور إنك على معرفة ما تقوله، جعلك أقرب للحالة وللمشهد، تسبقها في الكلام وتقول: “لوسطى حراجي القط العامل في السد العالي”.
الجواب الأول لزوجة غير متعلمة، غائب زوجها، وتكتب الجواب بعد شهرين من الغياب، كل ما سبق في ذهن الأبنودي، أعتقد المشكلة التي كانت تواجه الأبنودي هي كيف نقل حالة فاطنة للقارئ /المستمع، لا وصف للحالة، الأبنودي يرفض أن يحكي هو المشهد، بل يتركك أنت ترى المشهد.
الرائحة والأنثى، الشم هي أهم حاسة عند الأنثى مرتبطة بالذكريات والأشخاص والأماكن، فكانت البداية من هنا من “شمينا ريحة الأحباب”، وتأكيد من الأبنودي إنك أمام أنثى بكل ما تحمله الكلمة، ويخلع عن عقلك تدريجيا تصورك الجاف والسطحي عن الفلاحة البسيطة.
“زوجي حراجي
فوصلنا خطابك..
شمينا فيه ريحة الأحباب
ربنا ما يورّي حد غياب”
ينقلك الأبنودي لترى مشهد وصول الجواب الأول عن قرب ليكمل لك المشهد الناقص في الجواب السابق، ساعي البريد “مرزوق البسطاوي” ينادي على أم عيد، عبر الأبنودي عن حالة فاطنة على لسانها في جملتين يحملان كم هائل من المشاعر وكأن الجواب هو الرجاء الوحيد من الحياة.
“النبي ساعة مرزوق البسطاوي..ما ندَه كده
زي ما اكون دقّت في حشايا النار
زي ما كون العمر بيصدق..بعد ما كان كدّاب”
اختلاط المدة الزمانية بالمسافة المكانية، واستخدام كلمة للتعبير عن الإثنين معا، أكبر دليل على حضور عقلية فاطنة في ذهن الأبنودي وهو يكتب، يتقمص الأبنودي دور الكاتب للجواب مستندا إلى أن فاطنة لا تعرف القراءة ولا الكتابة.
“اتأخرت مسافة كبيرة ..كبيرة عليّ”
كل كلام فاطنة عن الغربة وتأثير الجواب المرسل من حراجي، كلام بسيط وصور شعرية قوية ومن داخل البيئة العامة للمكان والخاصة لفاطنة، “جوف الدار”، “ندعة ضو”، النداء بكثرة على حراجي وكأنه رجاء، التنقل بين حراجي و زوجي، حتى عند استخدام لقب غير الزوج، قالت: “يا بو عزيزة”، استخدمت اسم البنت، ومازال الأبنودي يكسر كل القواعد والقوالب المحفوظة عن هذه البيئة.
“طب والنبي وكإن ورقتك دي
أول قنديل يتهزّ ف جوف الدار..
أول نِدعة ضوّ..
الدار من غيرك يا بو عزيزة هِوّْ”
الأطفال في سفر الأب كالأيتام، وأضاف الأبنودي للتحديد والدقة في نقل شعور الأطفال باختيار وقت العيد، أكثر الأوقات يشعر فيها الطفل إنه يتيم.
“وعزيزة وعيد..
من غيرك يا حراجي
زي اليُتَما في العيد.”
ذات مرة وأنا استمع للجوابات مع صديقي، فصرح صديقي إنه لا يحب هذا المقطع، لأنه يفصله عن الجواب، وبعد نقاش توصلنا إن الأبنودي دائما يقف خلف الكواليس، تشعر إنه غير مشارك ولكن لا شيء يحدث إلا بعلمه وبناء على توجيهاته، كل ما سبق من الجواب حتى الآن يسيطر عليه إحساس الحزن والغربة والسفر و وحشة الوحدة واليتم، اقترب القارئ/ السامع لدرجة كبيرة من التأثر بالحالة، وهذا ما لا يريده الأبنودي، وفي نفس الوقت لا يريد خروجك عن المشهد الرئيسي للجواب، لا حل إلا موسيقى اللغة العامية كأنه استراحة على طريق السفر لأسوان، مقطع لالتقاط الأنفاس لا أكثر ولا أقل.
“اطلع واخش..اطلع واخش القاه..غيمان
زي اللي محروق له دكّان..”
كما فعل الأبنودي مع فاطنة وكتب على لسانها، كتب على لسان الطفل في شكل أسئلة طفولية ساذجة بريئة.
“ويقوللي:
“فين يا امّه أسوان..؟
وابا سابنا ليه يا امّه؟ ما يمكن زعلان…؟”
العتاب الجميل من فاطنة لحراجي عن طول الغياب “شهرين يا بخيل؟ ستين شمس وستين ليل؟”، يبدأ من بداية الجواب ويتصاعد تدريجيا حتى يصل لقمة العتاب والجمال، ربما هي من أجمل وأشهر الصور في الديوان عامة، صورة تختصر أغلب مشاعر الأنثى، يعرفك الأبنودي أن التناقض مرادف لكمة أنوثة، كل ما استطاعت الأنثى جمع مشاعر متباينة كلما ذات أنوثتها.
“النبي يا حراجي ما اطول قلبك
لأقطع بسناني الحتة القاسية فيه.”
الأبنودي لا يترك مقطع للصدفة، يرى بعين القارئ/المستمع قبل عين الشاعر، بعد المقطع السابق يعلم إنك تحتاج للخلوة مع نفسك لتسرح مع الصورة وتزيد عليها وتكسبها خصوصية لديك، فيكمل الجواب بكلام روتيني لا فائدة له، وفي نفس الوقت يضيف روح الواقعية على الجوابات حتى لا تشعر إنه مجرد شعر كتب في شكل جوابات، الأبنودي يصر في كل جواب أن يتأكد أن هذا العمل جوابات كتبت بمحض الصدفة بلغة شعرية.
“كل الجبلاية تسلم فرداً فرد..
مِ الحاج “طِلب حامد” لعيلِّة بيت “علي سعد”
وانشالله يا حراجي ما يورّيني فيك يوم
وانشالله تكون تعلمت تردّ قوام..
وما دمنا احنا رسينا عالعنوان
والله ما حنبطّل بَعَتان..”
صوت الأبنودي وهو يقرأ الجواب والقدرة على نقل شعور فاطنة لا تقليد صوتها، الموسيقى المستمرة والغير مفتعلة في الجواب تجعلك في حالة استرخاء يسمح لك بتخيل المشاهد وتذوق حلاوته.
“زوجتك
فاطنة أحمد عبد الغفار
جبلاية الفار”
نشر في موقع قل