شريف حسن
رغم أن بداية قصيدة يغلب عليها الطابع المسرحي القائم على فكرة تبادل الجوابات، كان من المنطقي أن تكون بسيطة هادئة، أهم ما يميزها تقديم وتعريف الشخصيات أبطال العمل للمستمع/ القارئ.
تماشيا مع المثل الشعبي “الجواب بيبان من عنوانه” نظم الأبنودي الجواب الأول من جوابات حراجي القط، بكسر هذه القاعدة وقواعد أخرى، ليعلمك أنك داخل عمل استثنائي يبدأ من داخل جوهر القصة.
خوف الأبنودي من سيطرة الملل على الديوان يداهمه من البداية، وعلى طريقة خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وتبادل الأدوار، جعل الأبنودي المستمع/ القارئ يشعر أنه المتأخر عن القصة، أن ورقا من مقدمة الديوان نست المطبعة طباعتها، مع أنه لا شيء غير واضح، لن تشعر أنك غير مدرك للأحداث، لكن بكل هدوء وذكاء جعلك في مهمة اللحاق به، بدّل الملل باللهفة وفضول المعرفة ليضمن بقائك لنهاية الديوان.
“أما بعد .. لذا كنت هاودت كسوفي ع التأخير”
اختيار مشهد الوادع للجواب الأول، المشهد الأهم لفكرة السفر والغربة، وصف مشاعر الرجل وخجله وضعفه وحبه، إحساس الفخامة والتقدير والأهمية في لفظ “زوجتنا”، فهي رفيقة الدرب وبطلة الديوان مناصفة معه.
“سامحيني يا فاطنه في طول الغيبه عليكم
وأنا خجلان .. خجلان .. وأقولك يا زوجتنا أنا خجلان منكم ..
من هنا للصبح .. “
مشهد الوادع كأغلب المواقف العاطفية تكون الأنثى هي الأكثر تأثرا، وبناء على نظرية الأبنودي في كتابة الديوان وهي كسر القواعد والتمرد عليها، كانت البداية من حراجي ووصفه للمشهد بعينه، تأثره من ألم الفرقة وحشة الغربة، وبكائه فيما بعد، ورغم التركيز على ضعف حراجي ألا أنه وضح في البداية أن الجواب جاء بعد شهرين من السفر.
“شهرين دلوقت ..
من يوم ما عنيكي يا فاطنه .. بلت شباك القطر ..
لسوعتي بدمعك ضهر يديَ
لحضتها قلت لك:
قبل ما عوصل عتلاقي جوابي جي”
الجوهرة المصونة والدرة المكنونة فاطمة أو فاطنة كما يحلو لحراجي أن يناديها، والظهور الأول لمشاعرها، فكانت الجملة تظهر مدى معرفتها بالرجل عامة، وزوجها وشخصيته وطبعه خاصة.
“نهنهتي وقلتي لي بعتاب:
لنبي عارفاك كدّاب… نسّايْ
وعَتنسى أول ما عتنزل ف أسوان”
يأخذك الأبنودي لترى المشهد وتعيشه بكل حواسك، تعيش زحمة المحطة وقلق الوادع رعشة المسافر ودموعه، وكلامه الأخير كرجل يحتضر ويملي وصيته.
استخدامه لتضاد بشكله البسيط قدر ينقلك الارتباك والعفوية اللي في المشهد “أضحك ولا أبكي”، “يقف ولا يولي”، استخدامه للألفاظ والإيقاع السريع وموسيقى المقطع، تكرار كلمات معينة، ” تقولي وتسكت وتقولي”، ” واليد بتخطفها يد الجدعان”، قلبي بينتقل من يد لإيد”، تصاعد وتخبط المشاعر “بتوضي وتقيد”، كل ما سبق ساعد في ازدياد حدة التوتر للمستمع/القارئ، وبالطبع صوت الأبنودي له عامل مهم في نقل هذا الوصف واقترابه أكثر من الواقع.
” ما عرفت ساعتها يا مرَتي أضحك ولّا ابكي..
ما عرفت ساعتها إذا كنت باعوز القطر يقف ولا يولّي…
حسيت بعنيكي الحيرانة يا فطنة بتقولي…
وتسكت…
وتقولي…
حسيت –واليد بتخطفها يد الجدعان-
بالقلب في جوفي ما عارف ان كان بردان.. دفيان..
والبت عزيزة والواد عيد..
قناديل في الجوف…زي ما بتضوّي..بتقيد..
والقطر اتحرك
وقلبي بيتنقّل من يدّ..لإيدْ
اتدلدلت بوسطي من الشباك..
” خدي بالك م الوِلد..راعي عزيزة وعيد”
بعد اكتمال العائلة بدخول عزيزة وعيد في المشهد، ينقل الأبنودي إلى مشاعر فاطنة بعد هذا الكم من التوتر والقلق، لتضفي شعورا بالراحة والحب، وتماشيا مع كسر القواعد فيأتي الكلام على لسان حراجي تمهيدا لبكائه بعد الاختباء وسط الجدعان.
“ولقطت الحس قريب .. قد ما كنتي بعيد :
(قلبي معاك يا حراجي هناك في أسوان ..)
ورميت نفسي وسط الجدعان .. وبكيت .. “
استمرار الموسيقى في الجواب، “بصة نار..نص نهار”، استخدام صور كلها من وحي المكان والبيئة المحيطة، ألا في نهاية الجواب تظهر صورة شعرية وجمالية أكبر من خيال حراجي، صورة دخيلة على باقي صور الجواب، صورة جميلة بسيطة ولكن تفتقد لواقعية المشهد، كيف لشخص عفوي غير متعلم مثل حراجي أن يقول:
“ولو الورقة يا بت الخال تكفّي..
لأعبّي لك بحر النيل والله بكفّي..كلام.”
بكل تأكيد هي صورة مقصودة، يدرك الأبنودي مدى صعوبة الصورة على شخص مثل حراجي، وبالرجوع للتاريخ الغير معلن لحراجي، ستجد أن الكتاب الوحيد المسموع له وربما يحفظ منه هو القرآن وبالأخص خواتيم الصور، فكان التناص الجميل من نهاية صورة الكهف.
“قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا”
نشر في موقع قل