ربما جاء رحيل عصام عبد الله في يوم عيد الأم، اكتمالا وتصديقا على عدم حبه وقلة اهتمامه بالأضواء والشهرة، ليرحل منذ 18 عامًا وبالتحديد في 21 / 3 /1996، وسط زحام التهاني والهدايا، بعد تجهيزه لهدية عيد الأم و النية للسفر لوالدته في مسقط رأسه الفيوم.
عصام عبد الله أهم شاعر غنائي ظهر منذ نهاية السبعينات وحتى الآن، والأهمية هنا ليست لجودة الوزن أو الأفكار أو لكثرة أعماله، الأهمية هنا للمشروع الغنائي الخاص به، هو من اكتشفه ومشى فيه وحيدًا غير مهتم بما يحدث خارج هذا الدرب، الدرب الذي لم يخطو فيه أحد بعد موته.
خلق عصام عبد الله في أغانيه شكلًا جديدًا صداميًا مجنونًا على آذان القائمين على صناعة الموسيقى وقتها قبل أن يكون غريبا على الجمهور، كثف المعنى في سطور صغيرة، لأنه لم يكن شاعر عامية كما كان الحال مع فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي، يعلم أنه قادم وسط عظماء كتابة الأغنية العامية، الطرق الجديدة وغير الممهدة والغريبة والصادمة والجميلة جمال بساتين الفردوس، كانت هي السبيل الوحيد لحفر اسمه طوال العمر في تاريخ كتابة الأغنية فكانت الأغنية هي طريق البوح الوحيد، فكانت الصورة الواحدة تتسم بالجمال الشعري منفردة بذاتها.
“حسبك شتيتي العقل أشتات
وجنيتي نجوم السماوات
وعديتي الحسن المسموح
إن قلت وداع أنقسم اتنين
فارس متمرد ع القوانين
وكسير مسلم ما بيبوح
روحي فيكي تروح“
المقطع السابق من أغنية “روحي فيكي تروح” من ألبوم “في قلب الليل” 1986 لعلي الحجار أكبر دليل على جماليات الصور وسلاسة اللغة في أغاني عصام عبد الله المفردات الجديدة والمركبة لخلق صور جديدة على الجميع هي أحد طرق عصام لعمل أغنية تنقلك إلى عالم أخر عذب مليء بالصور.
“م الرسمة اللي في حاجبه سحرني
لشقاوة الجمال في نني
لرموشها الموشوشني
لخدها الملمس فنان
لقلبها احلي الأوطان“
المطرب في مسيرته الغنائية مهما طالت أو قصرت، عدد من الأغاني لهم الفضل في شهرته، لهم الطلب الأكثر في الحفلات، واللقاءات الخاصة، كان لعصام النصيب من هذه الأغاني المحطات في تاريخ المغني، وعلى رأسهم محمد منير الذي كتب له عصام عبد الله أهم الأغاني في مسيرته الطويلة، سنة 1987 كان ألبوم “وسط الدايرة” يجمع أول تعاون بينهم في أغنيتين “حتى حتى” وهي من اجمل أغاني منير طوال مسيرته، الأغنية تحمل صورًا جديدة بداية من اسم الأغنية واللعب على اللغة العامية الدارجة مرورًا بكلام الأغنية واللعب على التضاد الجميل في الصور “غصب عنى بنام صاحي اصحى نايم زي جراحي”، “قولي إني بعيش ليكي أيوه بل إني بموت فيكي”، “مش هممني الكون هادي ولا زحمة الكون عادي”، نهاية بنهاية كل مقطع وخصوصا المقطع الأخير “دي الحياة جنة في تشريفك”.
وكانت الأغنية الثانية “ووه بابا” ربما تتشابه مع حتى حتى في الجمال والبهجة ولكنها تختلف تمام في الشكل والبناء، تجد الصور منفصلة متصلة سريعة المرور أمام عينك كأنك تقطف من كل بستان زهرة حتى تحصل على أجمل الأزهار.
“دي الرحمة اللي الصبر بعتها
في عباية الشروق لقيتها
نستني بنعنشتها
يحق لي والكون زعابيب
ادوب في طيفها في الدباديب
وأخصها بقلبي الحبيب“
بعدها كانت أغنية، “سحر المغنى” وهي الأغنية التي كُتب كلامها على لحن نوبي قديم، وغناها منير بصحبة المطربة المعتزلة “أميرة“، وتعتبر من أبهج أغاني عصام عبد الله، وهي مبنية في شكل حواري بسيط، ولم تكن المرة الأولى لعصام للكتابة على لحن فلكوري قديم، فقد فعل ذلك من قبل في أغنية “روحي فيك تروح” على لحن جزائري للملحن “ايدار”.
“على كيفك، على كيفك همس الكلام واصل
فبن روحك، مع روحي عمر الغنى مواصل“
وتأتي في نفس الألبوم أغنية “الطول واللون والحرية” الأغنية الغريبة والصادمة في الألبوم الذي يحمل نفس الاسم “الطول واللون والحرية” 1992، يعلن عصام عبد الله أن رغم أنه يحبها يرى الحب سجن مهما كان شكله الجميل والمبهج، ويعلن عشقه للحرية بربط الحرية بشعر الحبيبة، ربما كان الخوف من العلاقة ربما الخوف من الوقوع أسيرا لها، هكذا تتسع أغاني عصام للتأويل بداية من اسم الأغنية الغريب في وقتها حتى مفردات ومعاني الأغنية.
“دنا انسى في شافيفك اسمي
انا فاهم في كنوز العفة
دنا ممكن اجريلك دمي
انا حاسس دمي هيتصفى“
وكان أخر تعاون بينهم قبل وفاة عصام بسنتين في ألبوم “افتح قلبك” 1994 في الأغنية الأكثر انتشارا حتى الأن ربما لكلماتها الباعثة على الأمل أو لكلامها الجديد والسلس البسيط على الأذن، ربما لاسم الأغنية الذي لو سمعته لمرة سيبقى في ذاكرتك “لو بطلنا نحلم نموت” وربما كل ما سبق.
“حضن في غربة ملمس مثير
بعد مشاغبة هترقلك“
كانت القصة السينمائية في الأغنية هي أيضا أحد طرق عصام عبد الله، وكان له التفرد في هذه الفترة، الانفراد هنا في شكل بناء الأغنية والمفردات، وكانت أغنية “في قلب الليل” لعلي الحجار، هي أكثر الأغاني الموضحة لهذه الفكرة، وكانت الأغنية من أهم الأغاني في مسيرة على الحجار حتى الآن، وتعتبر الأغنية قصة قصيرة، بداية من الزمن والأشخاص والحوار، نهاية بالحبكة الدرامية والبداية والنهاية للقصة، فعل عصام عبد الله ذلك بكل سهولة ولم يهمل الصور والمفردات فجاءت كعادة عصام جديدة جميلة.
“وصهل المهر لم أفهم
أخوف مني أم اتعاجب
سألت المهر لم يفهم
كلام مني ولا جاوب
وكان في عينيه بريء مني
كأنه كان يسألني“
ومن الأغاني المبنية على فكرة البناء الدرامي التصاعدي، كان لسيمون أيضا نصيب منها قبل رحيله بسنة في الأغنية الرئيسية في ألبوم “أحب أقولك” 1995، “أحب أقولك” أغنية جديدة على المستمع في ذلك الوقت ربما يعتقد البعض إنها من أغاني فرق الأندرجراوند الأن، نجد البداية قوية “أحب أقولك أن قبلك كنت عايشه وأن بعدك هابقى عايشه وأن في ميت الف زيك”، البداية من النهاية ثم حكي القصة تنازليا حتى البداية، كأنك أمام مشهد فلاش باك، وعصام يضيع بصمته في أي مكان، فكرة الأغنية بسيطة مستهلكة حد الانتهاك من قبل الشعراء على مدار تاريخ الأغنية المصرية، ولكن مع مفرداته وأسلوبه الخاص تتفرد الأغنية عن القطيع وتبقى بعيدة في مكان أخر عن كل ما كتب في هذه المنطقة.
“يااما أحلامي اترمت وأنت كسول
قدام عنيك اتكسرت كل القصور
فين الحقيقة في اللي قلته باصطناع
فين الآمال فين الامان قول يا شجاع“
فكرة البناء الدارمي سنجدها أيضا في “كان احساسي صحيح” في ألبوم “أعذريني” 1981 لعلي الحجار. وهي تعتبر الأغنية المقابلة لأغنية سيمون السابقة.
“دلوقتي لازم اكون وحدي هنا
ما تفرقيش عن سواكي
كل اللي فهم ماليكي
نفس الرتوش واللون“
وفي نفس الجو العام للأغنية السابقة نتذكر أغنية “ودعي المكان” لمودي الأمام وهي الأغنية التي تحمل مقطع يبين أسلوب عصام في تكثيف الصور بأقل كلام ممكن، “والنوادر والحيطان والامتزاج واختلافنا المستخبي في الاحتياج”، هكذا بكل بساطة كتب عصام عبد الله، ملخصا مشاعر متشابكة ومتناقضة في جملة واحد.
“دوري بعينيكي في كل حتة
المسي كل الحاجات
حسسي ع الذكريات
رتبيها، لخبطيها، كسريها
أو خديها وأنتي ماشيه
ودعيني ودعيها، ودعي المكان“
ويذكرنا مودي الأمام بأغنيته هو وشقيقه حسين “وماله“، الذي كتبها عصام لتشعر كأنك تسمع لغة جديدة، وهكذا كان يفعل عصام، وهي أحد الطرق لخلق شكل جديد للأغنية، فنجد الكلام سريع غريب ومبهج. “ طلعت نزلت شافت عميت طبت قبت فطت عدت شفطت نطرت قامت قعدت سخنت بردت ضحكت زعلت”.
ومن الأغاني الأكثر جدلا وجمالا من حيث لغتها الجديدة ومفرداتها، وتشعر كأن عصام صال وجال في بلاد الله رحال، جامعا من كل أرض كلمة، حتى يخرج لنا بأهم أغاني أنغام في مسيرتها “وحدانية” من ألبوم “وحدانية” 1999، الأغنية كلامها صعب ومفرداته غريبة من بداية الأغنية حتى ناهيتها، “يا أم رشرش حرير”، “يا عيوجيه”، وغيرها من الكلام المجهد في فهمه، كجملة “ فوق المقصب الرومية و تحته وادى”، المقصب هنا المقصود به الثوب المنقوش بالذهب والفضة، والرومية بعد بحث طويل اتضح إنها تعني الفتاة العصرية باللهجة المغربية، وتحته وادي ذلك الوصف الجميل الخجول لا يصدر ألا من شخص قال قبلها “أنا فاهم في كنوز العفة” وهذا المعنى المتخيل مني يتسق مع الجملة التالية له “حطه المشخلع و الكردان على حسن هادى”.
وتبقى اللغة من أهم سمات أغاني عصام، وهنا مع أغنية تميل إلى البيئة الصعيدية، وكعادة عصام يضع بضمته في الصعيد بشكل مختف، فيكتب لمحمد فؤاد في ألبوم “هاود” 1987، أغنية “نحب بجد“، تجد الكلام جديد كعادته “هاتحب نحب بجد .. ما عايزش هزار من حد شورى أول مجلس قلبك وقولي لي إن كان لِك وِدّ”، السياسية العاطفية كأن عصام يلعن بعده عن الأغاني السياسية والاهتمام بالجمال والحب والحزن القليل. وهنا يتضح أسلوب عصام في السهولة والسهل الممتنع في الكتابة
“وعليم الله قد العشق فكل الأرض في قلبي إن شال الوِدّ يفوق الدنيا كتير
و عسى الله يبقى الرد .. جميل بجمال الجد والخـد يميل ع الخـد ويبقى حـب كبـير“
وبعيدا عن السياسة وقريبا من الوطن، كتب عصام الأغنية الأشهر عن الوطن خلال الثمانينات والتسعينات ولصاحبها خاصة “يا بوي يا مصر” لمحمد الحلو في ألبوم “مستحيل” 1984.
ولفؤاد تجربة جميلة وخفيفة مع عصام في أغنية “عاش الطب” في ألبوم “في السكة” 1985، أغنية خفيفة ترجعنا إلى جو فتحي قورة والأسكتشات الخفيفة.
“الله لا يشبعني حب ولا يغنيني عن الحلوين مصرح ليه بأمر الطب أحب يوماتى انشالله متين“
ومن جو الأغاني الخفيفة والاسكتشات، فكتب عصام أغنية “غرقان لشوشتي” لمحمد فؤاد من نفس الألبوم السابق، وصورت الأغنية كصورة استعراضية في التلفزيون المصري، وكانت الأغنية تذكرنا بأغنية أم كلثوم “قوللي ولا تخبيش يازين” كلمات بيرم التونسي، ولكن تبقى بصمة عصام واضحة وضوح الشمس، ومن بيرم إلى فتحي قورة وحسين السيد، ومن وحي “قلبي يا غاوي خمس قارات” و “اللي يقدر على قلبي”، يكتب عصام عبد الله أوبريت غنائي استعراضي “جواز حول العالم” غناء وتمثيل “الفور أم“.
ومن جو الاستعراضات وروح حسين السيد نتذكر تجربة أغاني الأطفال، ، فكتب عصام لعبد المنعم مدبولي في ألبوم “توت توت” أغاني “ البطة – دا دا– ح يجننونى“، وكانت أغنية البطة الأشهر لاذاعتها في التلفزيون المصري كثيرا، رغم عدم معرفة الكثير إنها كلماته، ومنها الجملة الأشهر “ويظغطوها بالدرة و الفول و يحطوا معاهم عيش مبلول و لما تخلص تجري على طول تقوم و تبلبط لآخر اليوم”.
وكتب أيضا أغنية “الديك الشركسي” ليونس شلبي، و تبقى أغاني عصام عبد الله للأطفال كما هي للكبار، مفرادات جديدة وطرق جديدة وبصمة تجعله في مكان خاص لا يهمه إذا كان مكان عالي أو مكان منزوي، فهو يكره الزحام والشهرة والتقليد، وكتب أغنية “الكورة مدورة” لسمير غانم في ألبوم “مانا مانا” مع فرقة الحياة. وللرثاء أيضا نصيب في حياة عصام فكتب رثاء لـ “أحمد الضيف” قاله سمير غانم.
“أنا سميتك الضحكة وأنا مجروح
أنا خليتك المبدأ منين ما بروح
أنا حسيت كما عنيه
أنا حبك علانيه
سنين فاتت وحشتيني
أنا في السكة قابليني
وحشتيني.. عرفيتيني“
أغنيتين من أصل أغنية واحدة، هكذا فعل عصام، فكتب لأيمان البحر درويش أغنية “عرفتيني” في ألبوم “شمس ودفا” 1991، وقبلها بمدة تصل لعشر سنوات كانت أغنية “عرفتيني” من ألبوم “ابدأ من جديد” 1981 لفرقة المصريين، نفس الكلام مع تغيرات بسيطة وحذف مقاطع، ورغم ذلك تختلف الأغنيتين عن بعض بشكل تام.
ولفرقة المصرين أغاني أخرى مع عصام عبد الله مثل “فيفيا الهوى” في ألبوم “بحبك لا” 1977، واستخدام الفرنكوا وكلمة “viva“، وأغنية “اديني عقلك” من ألبوم “ماشية السنيورة” 1985، وكتب أغاني لفرق أخرى منها أغنية “يا البوليس” لفرقة “الجيتس“.
كتب عصام أيضا لعمرو دياب (بحب الحياة–المدينة–وقت وعشناه–أشوف عنيكي–عصافير الحب) وكان ذلك خلال سنتين في ألبوم “يا طريق” 1983وألبوم “غني من قلبك” 1984. وكتب لمطربين أخرين، وكتب أغاني أفلام “أنياب” إخراج محمد شبل و”الحب في التلاجة” إخراج سعيد حامد و«الأقزام قادمون» إخراج شريف عرفة، كما كتب عدداً كبيراً من الإعلانات في الثمانينيات.
معظم أعمال عصام كانت تتميز باللحن والتوزيع، ربما كان على الملحنين والموزعين التجديد بما يناسب التجديد في الفكرة والكلام وطريقة الكتابة، لذلك كان من أهم رفقاء الدرب مودي الأمام ومصطفى على إسماعيل وأحمد منيب وهاني شنودة وغيرهم من الملحنين والموزعين، فكان لهم دور مهم في بقاء أغاني عصام ضمن أهم أغاني هذه الفترة الزمنية حتى وفاته.
ورغم وفاته سنة 1996 ألا أن بعض الأغاني ظهرت بعد وفاته، وكأن عطاء عصام لم يمت حتى بعد موه، “وحدانية” لأنغام سنة 99 وأغنية لطيفة “تروح وتغيب” في ألبوم “ماتروحش بعيد” 2003، وأخيرا في 2007 أغنية “مش حتقدر” لروبي من ألبوم “مشيت ورا أحساسي“، وهي الأغنية الوحيدة الذي لم يعلم أن روبي سوف تغنيها، وربما كان أداء روبي الجميل في الأغنية أجمل وداع لهذا الشاعر المبدع دائما والمتنوع على طول الطريق، فالسلام عليك حين كنت والسلام على روحك الجميلة المبهجة.
نشر في أخبار الأدب
You must be logged in to post a comment.