رحل “حراجي البسّ” في عام 2009، ورحل الأبنودي هذا العام،وبقت الجوابات، ديوان يندرج تحت أهم ما كتب في تاريخ شعر العامية، لكنه بعد رحيلهما، خاصة رحيل البطل الأول.. صوت الأبنودي، وقعت الجوابات في صحن الذكريات.. أصبح لها طعمًا آخر.. كأن الطفل “عيد” أصبح أبًا.. يحكي لأولاده عنها..
“وندهت عليك يقلت: أن ابنده
سامعاني؟
سامعيني يا عيال؟
هكذا كان حال حراجي في الجواب السابق، استمرار تبديل الأدوار، المواصلة في التعري، الرجل خائف، ينادي على زوجته، يستغيث بالأطفال، يأتي صوت فاطنه، يأتي الجواب الرابع والثاني لها، لاحظ صوت الأبنودي في بداية الجواب، فاطنه هي الظهر الحامي، الأنثى في أحلى أدوارها في الحياة.. “الاحتواء”، صوت فاطنه صادر من امرأة قوية لا تهاب الأيام أو الغربة. تنفذ ما قاله لها
واوعي يافاطنة
لماارجع وأبص في وش اللّولادْ..
أعرف إن أبوهم كان غايب..
التناص مع القرآن، تناص تراثي، في دعوة “ولا يقفل لك كف” التناص مع “بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء”، يتحرك الأبنودي دائما بذاكرة أمه، ذاكرة القرية والصعيد، كما فعل في أغنية “بيبة” في فيلم عرق البلح وهي الأغنية التي كانت تغنيها أمه في قريتهم “أبنود”، نجد كلمة “إما بعد”، استعرتها فاطنه من زوجها، استخدمها حراجي في الجواب الأول والثالث، ليؤكد الأبنودي على فكرة المسجد، المركز الإعلامي للقرية، والخطب والدروس الدينية.
“وصلنا الطرد وجانا المبلغ ياحراجي ..
احياك الرب وابقاك ألفين عام ..
ولا عاد يقطعلك عادة ولا حس
ولا يقفل لك كف ..
ولا يطوي من قدامك سجادة الخير والسعد
إما بعد”
تحكي فاطنه بكل ثبات، تتحرك بين المنطق في جملة إحنا ياحراجي -بعيد الشر -إن ضاقت بينا الحال يكفينا ريال، والعاطفة في «كفاية علينا البسطاوي الظهر يخطي عتبة الدار»، لتنطلق وتحكي ما حدث في غيابه، تحكي بالتفاصيل الكاملة، الشيخ قرشي، ساعة المغرب، الحوار الذي دار بنهم، حتى المزاح الذي قاله الشيخ، في كلمة واحدة وضح لنا الأبنودي إن والد فاطنه متوف، وأن الشيخ كان يعرف والدها معرفة شخصية، كل ذلك في جملة «يابت المرحوم».. لنتذكر جملة فاطنه في الجواب الثاني «عارف فاطنه ياحراجي لا ليها عيل .. ولاتيل»
أسوان.. بداية الدراما
فاطنه تلقي بذرة الدراما المتصاعدة، تفتح باب الأسئلة الوجودية بالنسبة لها، «أمال ناسها بيسووا إيه؟ما بيشتغلوش ليه؟، تشعل نار الإشكالية الكبرى، الإشكالية التي سيبني عليها الأبنودي التصاعد الدرامي للجوابات، إشكالية «كيف صاحب الفاس يصبح اسطي؟»، كل ذلك فاطنه تحتوي زوجها، تحميه من وحش الغربة، تحتضنه حضنا يمنح القوة لا النوم، حتى وهي تطرح عليه أسئلة كثيرة عن أسوان وما فيها كما ذكرنا.
للأنثى حق السقوط عمدًا في حضن عاشقها، كما حدث هنا، لم تتمالك فاطنه نفسها، هي من كانت في بداية الجواب تحثه على الاستمرار في العمل، تقويه وتمنحه عطفها وحنانها، كل ذلك بشكل غير مباشر، بشكل لا يجرح حراجي، بل يقويه، حتى عندما سألت عن أسوان، كان سؤالا استفساريا، فضول الأنثى للمعرفة، «فهمهاني دي لأحسن عاملة في راسي زي الخبطة»، لكن شعور الأنثى بغياب حبيبها يغلب عليها، يحرص الأبنودي على الواقع، على الجمع بين المشاعر ونقيضها، فالأنثى مهما كانت قوية، تحن لحبيبها، لحضنه، للراحة بين جسده.
“في الليل يا حراجي تهف عليا ماعرف كيف
هففان القهوة.. على صاحب الكيف”
يصور ذلك بكل جمال وخفة، استطاع الأبنودي أن يلخص هذه المشاعر في جملتين فقط، استخدامه لكلمة “تهف”.. تأكيدًا على إنها تعلم إن الاشتياق رفاهية لمن في موقفها، هي الأب والأم معًا، لكنها في النهاية أنثى.. يأتي عليها الليل، تقع في بئر الشوق والحنين عن عدم قصد، حتى هي وضحت ذلك «ما عرف كيف»، فاطنه جاءت بصورة من ذاكرة الرجل، لا الأنثى، ارتباط القهوة بالرجل أكثر، وخاصة في مجتمع مثل مجتمع حراجي، وارتباط القهوة بالكيف والإدمان، هي تعشقه لدرجة الإدمان، ومع حالة النشوة والإدمان الجميل، تتخيل إنه بجانبها، «طب والنبي صح ومش بكدب ياحراجي». هذه الجملة جميلة الوقع على الأذن، تبتسم عند سماعها، ترى لمعة عين فاطنه وخجلها.
لن يترك الأبنودي مشاعر داخل فاطنه، لم يخرجها لنا، وفي نفس الوقت لن يخرج خارج سياق الجواب، لن يتحرك خارج الخط الدرامي، من الاشتياق والحنين، لدور الأم، وسبع أسئلة عن تفاصيل دقيقة، تفاصيل أم وابنها، عاشق وعشيقته، لا تنسى صوت الأبنودي، وتوصيل مشاعر فاطنه لا صوتها، وموسيقى الكلام.
“بتاكل كيف؟ وبتلبس إيه؟ وبتقلع إيه؟
بتنام فين؟
قاعد في المطرح مع مين؟
مين اللي بيغسلك توبك؟
وبتتسبح فين؟”
فاطنه هي قائد البيت، صاحبة القرار، «في نهاية القول أنا رح أشيع عيد ع الكتاب ..فأبعتله ووصيه على شد الحيل»، لا وقت للمناقشة، كانت وضحت له في منتصف الجواب، أن التعليم مهم لهم قبل أن يكون مهما لعيد، وتأكيدًا على فكرة أن التعليم كالسند كالأهل «وأنا بيني وبينك ياحراجي عوزاه يكبر ويعوضنا عن الأهل ويعمل لنا قيمة عوزاه قيمته في جبلاية الفار قيمة القيمة»،وينهي الأبنودي الجواب بالسلام وحلم فاطنه برجوع حراجي لبيته ومكانه.
“وجميع الناس في الجبلاية
عايزين لك كل سعادة وخير ..
وبيتمنولك تاني ترجع في السلامة..
تعمر مصطبتك ..
وتقيد اللنضة في الدار”
نشر في موقع قل