شريف حسن
دائما عندما أرى أي مشهد تمثيلي، أقارن بينه وبين الواقع، بينه وبين الصورة الأولى والأصلية المسجلة في عقلي الباطن، ولكن الغريب أن تكون الصورة الأصلية هي في الحقيقة مشهد تمثيلي.
هل يمكن لعمل مثل “الليلة الكبيرة” أن يحاكي الواقع لهذه الدرجة من الصدق؟
ربما لأني ابن الثمانينات، طفل الخليج، شاب التسعينات في القاهرة الكئيبة لم يسعدني الحظ أن أعيش المولد كما كان حقًا، أتذكر كلمة صديقي عندما قال: “الليلة الكبيرة دي اللي تقدر تقول عليها عمل فني متكامل وأنت مطمئن”.
صورة غنائية
قبل أن ندخل المولد كي نرى فن محاكاة الواقع، سنرجع إلى نهاية الخمسينات وبدايات فكرة الليلة الكبيرة التي حضرت لعقل صلاح جاهين بعد ظهور “الصور الغنائية الإذاعية”، وتقديم عروض كثيرة في شكل غناء جماعي، فبدأ في كتابة نص يرصد أجواء المولد كما كانت في ذلك الوقت، ويلحن سيد مكاوي أولا بأول ما أنجزه جاهين.
سجلت الصورة الغنائية تحت اسم “الليلة الكبيرة” كلمات صلاح جاهين، لحن سيد مكاوي، إخراج عباس أحمد، وشارك في الغناء محمد رشدي، شفيق جلال، عصمت عبد العليم، شافية أحمد وغيرهم، وشارك مع الكورس أطفال حي الناصرية بالسيدة زينب.
وعندما سمعه الإذاعي محمد محمود شعبان “بابا شارو”، أبدى إعجابه بالعمل ولكن قال إن العمل ناقص ويجب إكماله، موضحا لجاهين إنه يجب إدخال بعض الصور والمشاهد الأخرى للعمل، وهي مشاهد معتادة في المولد.
اقتنع جاهين وكتب المقاطع الجديدة ولحنها مكاوي لكن لم يلحقوا تسجيلها، فجاء العرض الإذاعي خاليا من الاستعراض الخاص بالراقصة “الغازية” وغناء “لاعب الطارة”.
انتشرت الصورة الغنائية، كالنار في الهشيم، كالصوت وسط الصحراء، جاء العمل جميلًا مدويًا غريبًا على السامعين والمتخصصين أيضًا.
تحفة فنية
بداية من الكلام سنجد صلاح جاهين يكتب كتابة وحي، تقف أمام أي كلمة في الليلة الكبيرة، وتفكر في كلمة تستطيع استبدالها بأخرى ولا ينقص المشهد ولا تخل بالفكرة فلا تجد.
أما اللحن فتشعر إن سيد مكاوي تذكر كلمة الشيخ زكريا أحمد عندما سأله بعد ما حفظ كل أغاني التراث من أين ابدأ فقال له: عليك وعلى ما انتهى عنده سيد درويش، وبالفعل اهتم مكاوي بالشارع المصري وبالناس، وكان دائما يقول أنا مدين للناس فهم مدرستي الأولى في التلحين.
قدم مكاوي لحنا بسيطا جدا، لحنا استخدم فيه كل ما يمكن استخدامه في المكان المحيط للمشهد، واختياره للكورس وللأطفال وصوت الحمار، ليشعر المستمع أنه هو صاحب اللحن، لحنا خفيفا على القلب والخاصرة.
جاء مسرح العرائس ليقدمه في أبهى صورة، من ديكور وتصميمات العرائس والإخراج، عمل أقسم كل أصحابه على أن يبقى تحفة فنية على مدار التاريخ.
الليلة الكبيرة
إذا سألت أي شخص من هو بطل الليلة الكبيرة، ستكون الإجابة بالإجماع هو مسعد وصديقه، وهذا ما قاله أيضا مكاوي في أحد حواراته.
“ياللا بْنا نخرج يا مسعد
شارع الترماي”.
ولكن خيالي المريض يرفض هذا، ويرى أن الأطفال هم أبطال الليلة الكبيرة، الأطفال الزاحفين في كل مكان دون أستئذان، أصحاب الفضول الأكبر واللهفة لمشاهدة كل ما يحدث في المولد، بما فيه مسعد وصديقه.
يبدأ العرض بدخول مجموعة من الأشخاص حاملين الأعلام بألوان مختلفة وصوت الكورس في الخلفية.
“قبة سيدنا الولي دول نوروها
محلا البيارق والناس بيزوروها
قبة سيدنا الولي في الجو عاليه
محلا البيارق لما دوروها”
سنجد جاهين هنا استخدم كلمة البيارق وهي مرادف لكلمة أعلام، وبالبحث ستجد أن البيارق هي الأعلام الكبيرة، كإعلان هنا المولد.
مقدمة موسيقية هادئة، تهيئك لدخول المولد، ومكاوي استخدم لحنا أقرب إلى ألحان الزفة، مضيفا لها الزغاريد كدليل على البهجة، المولد بمثابة فرح كبير.
ينهي الكورس المقطع وتستمر الموسيقى، كأنك تسمع وقع الخطوات تمهيدا لدخول المولد، في صحبة جاهين ومكاوي في رحلة استكشافية للمولد وما به.
يدخل مكاوي بالمقطع اللحني للجملة الرئيسية في العرض، ليؤكد على الزائرين هذه الجملة الموسيقية هي رفيقة الرحلة في المولد دون كلام، وكأنه يريد إن يتحدى جاهين، تحدٍّ في صالح الجميع، تحدٍّ يجعل العمل متكاملًا ومبهجًا.
“دي الليلة الكبيرة ياعمي والعالم كتيرة
ماليين الشوادر يابا مالريف والبنادر”.
يدخل صوت محمد رشدي بائع الحمص مناديًا على بضاعته.
“حُمُّص حُمُّص
تل ما ينُقص
عالنار يرقص”.
يرد مكاوي على جاهين بالموسيقى حتى ينتهي عند كلمة “ويقول” ليترك صوت رشدي يعلو.
“اللي شاف حمص ولاكلش
حب و اتلوّع ولا طالش”.
بمصاحبة الكمان تجد الواقع يتجسد، بائع يقول كلاما موزونا ذا طابع مرح يجذب إليه الناس، فمن الطبيعي أن يضحكوا، بالفعل ستجد صوت فتاة تضحك وتقول “يسترك هات حَبّةبقرش”، ليضحك الجميع بعدها، بما فيهم أنت.
ينهي مكاوي المشهد بصوت نهيق حمار، مستخدما آلة الكمان ليؤكد لك أنك في عالم واقعي، فترقب أي شيء، يكون أيضًا بداية لزحام المولد وضوضائه.
يجلس مكاوي ليستريح ويترك جاهين يقود هذه الضوضاء الجميلة، أصوات متداخلة من بائعين وحلقة ذكر يصنعها جاهين بسلاسة غريبة.
“اسعى..اسعى..اسعى..اسعى..
خدلك صورة ستة فتسعة
اسعى..اسعى..اسعى..اسعى..
ياسي عجورة..النار خسعة
الله الله الله الله
عجميه باللوز. طعميه. أراجوز”.
يرجع مكاوي للجملة الموسيقية الرئيسية وهنا يصاحبها الكلام بصوت الأراجوز والكورس، يدخل الشخص السائل عن عنوان وهو شخص واقعي جدا في المولد، يؤكد جاهين على الواقعية ليجعل الوصف فكاهيًا، لأن كلمة لا أعلم غير موجودة في قاموس المواطن المصري، ويجعل الصلاة على النبي في بداية الكلام، نحن هنا كلنا في حضرة النبي ومولده.
تبحث عن مكاوي ولن تجده، تلك هي عبقرية اللحن، تشعر كأن الكلام بلا تلحين، كأنه مشهد حواري حقيقي،تستمر محاكاة الواقع بشكل مخيف، ويستمر جاهين في اختيار الألفاظ على نهج السهل الممتنع.
يتحدث دائما مكاوي عن إن سيد درويش هو أول من لحن كلام الشارع، أعتقد إن الليلة الكبيرة كانت أكبر فرصة ليثبت إنه تلميذ درويش النجيب.
مع هذه الجملة “مع السلامة يا بوعمة مايلة” والكورس، ينهي مكاوي المشهد.
مقدمة موسيقية تحثك على الاهتمام، إعلان مسبق لما هو قادم، لاعب البخت واستخدام جاهين لجملة “غمض عينك تأكل ملبن” بشكل معاكس، استمرار مكاوي في الجمل الموسيقية البسيطة والكورس مع تسريع الرتم كما حدث في نهاية مشهد الأراجوز.
صوت زمارة، لا تنسى أنت في الواقع، وبائع جديد واستخدام مكاوي لكل الأصوات الواقعية الممكنة.
تسمع صوت سلام مربع وكأنه قادم من بعيد، يأتي بعده صوت المعلن عن السيرك، هنا تتجلى عبقرية جاهين ومكاوي معًا.
المعلن يجب أن يكون كلامه جذابا، بسيطا، مفرحا، مبهما، ولكن في النهاية هو يصنع ذلك من أجل تذكرة دخول السيرك، وهذا ما فعله جاهين بالحرف، لحنه مكاوي بخفة لاعب السيرك وبهجة البلياتشو، واستخدام الكورس من الأطفال.
“الليلة الليلة السيرك تعالو ادي فُرجة تساوى جنيه
قولوا اهيه
بمناسبة هذاالموْلد يَوْجَد برنامج سواريه
في السيرك شجيع يهجم عالسبع ويركب دغري عليه
قولوا هيه
وبنات قمرات زي الشربات حلوين مش عارف ليه
قولوا هيه
وكمان بلياتشو تعا سمعوا ناتشو و شوفوا هايعمل أيه
قولوا هيه”
بعد عبقرية جاهين في المقطع السابق ونهاية المشهد كما بدأ بالسلام المربع، يجلس للراحة قليلًا، يكمل مكاوي فقرة السيرك، صوت نهيق الحمار كفاصل بين الجمل الموسيقية وينهي المشهد أيضًا بالسلام المربع.
تدرك مدى واقعية الليلة الكبيرة عندما تجد نفسك بعد هذه الرحلة في المولد قد أصابك الجوع، فتجد جاهين يقول لك وهو يبتسم.
“السمك مقلي
كل وبَرقلي
صنف زي لفل
استخار واختار
فِشَة أو ممبار
ياللـه وسمَي وكُل”.
كل ما سبق وأنت في صحبة الأطفال، بعد الأكل يترك جاهين المهمة لمكاوي وترى مشهد “زفة المطاهر”.
استخدام مكاوي للناي والرق والمزمار البلدي والإيقاع وإدخال رقص الخيل والزغاريد مع الكورس من النساء والأطفال.
مشهد القهوة، تقف أمامه عاجزا، فالمشهد يوضح السؤال الوجودي المسيطر على ذهني من بداية دخولي المولد، لمن العبقرية هنا؟!
هل جاهين كتب الكلام ملحن من الأساس، أم مكاوي كان قادرا على تلحين أي كلام يكتبه جاهين، لن تجد إجابة متفق عليها، ولكن المتفق عليه هو أن الناتج عظيم.
صلاح عبدالحميد “الريس حنتيرة” يقف ليغني مع لحن مكاوي الملائم للجو العام، وكلمات جاهين المتجلي في السماء، ومن ذاب ذوبان فأصبح خيالا.
“ياشفَّتك فص الفراولة
وأنا لاقوة ولاحوله
شَقْلَبْتَلي عقلي على اولة”
القهوجي يقاطع الريس حنتيرة ويقوله
“وقف ياريس حنتيرة
فيه ناس هنا قاعدة كتيرة
ولاحد قال هات تعميرة
ولاواحد شاي
اللي حيطلب راح يقعد”
تأكيد من جاهين أنت في محاكاة الواقع، فلا داعي للاندهاش، تشعر حقًا إنك في مولد، القهوجي يهمه المال أكثر من أي شيء، يظهر لأول مرة مسعد وصديقه ويرحلان بعيدا عن القهوة، ويكمل ريس حنتيرة الغناء كأن شيء لم يحدث.
لاعب الطارة “شفيق جلال” وحواره مع أبو بدلة جديدة في تحد معلن، بعيدا عن سلاسة الحوار وجمال لحن مكاوي واستخدامه للكورس الدائم بشكل واقعي جدًا.
تجد جاهين يستخدم أسماء مناطق بعينها، دون أن يخل بالوزن، توضح الاسماء المختارة إن جاهين يحضر مولد السيدة زينب ويعرف المناطق المجاورة له.
“دنا الأسطى عمارة من درب شكمبة
صيتي من القلعة لسويقة اللالا”
ينهي مكاوي المشهد بكل هدوء تماشيًا مع جملة “ندخل على سهوة”، ليحدث مثل مشهد القهوة الأول ولكن بتعديلات بسيطة، غازية هي التي تغني، الكلام واللحن أكثر عذوبة وجمالا ليتماشى مع كون أنثى هي التي تغني.
الصدفة في الزحام، هكذا صور جاهين المشهد التمهيدي لحلقة الذكر، يكتب بعدها واصفًا على لسان المنشد رؤيته للنبي في المنام.
“شفت فمنام صاحب المقام ده أُبَهه”
ينطلق مكاوي بموسيقى تفوح منها رائحة حلقات الذكر، مسرعًا في الرتم تلازمًا لحركاتهم السريعة، وتتداخل الأصوات بين المنشد والحاضرين.
في ختام اللية الكبيرة يظهر المشهد الدائم والمعتاد في الموالد، ضياع طفلة من أمها وسط الزحام، أكبر دليل على أن الأطفال هم أبطال العمل الفني المتكامل الأقرب للواقع، يلعب جاهين لعبته المفضلة في التوضيح المبهم.
“بنت تايهة طولك ده
رجلها الشمال
فيها خلخال زي ده”.
ويقوم الكورس بغناء الجملة الرئيسية لينهي بعدها مكاوي بصوته وهو يردد الآذان.
كان كل ذلك تحت إشراف مسرح العرائس سنة 1961، إخراج صلاح السقا،عرائس ناجي شاكر، ديكور مصطفى كامل، وإخراجها للتلفزيون محمود بيومي في مطلع الثمانينات.
سيد مكاوي لم يكن ملحن فقط، لكنه كان يعيش اللحن بكل تفاصيله، يحفظه عن ظهر قلب، يغنيه في حفلاته الخاصة، مؤديًا كل الأشخاص بطريقة مبهرة ومبهجة.
وهنا تسجيل من حفلة على مسرح الأندلس بالكويت سنة 1982، يغني جزء من اللية الكبيرة بمصاحبة فرقته وبالأخص عازفين الكمان المصاحبين لمكاوي طوال الأغنية بشكل مبهج، والكورس هو الجمهور، دليل على انتشار الليلة الكبيرة في الوطن العربي، ليكون هذا أخر تأكيد على إننا أمام عمل فني كامل محاكي للواقع.
تسجيل من حفلة على مسرح الأندلس بالكويت
نشر في موقع قل