“أستاذ وحيد هو أنت من أعداء الوطن؟!”، كانت هذه الجملة هي أصل قصة فيلم “البريء” 1986، كان السيناريست وحيد حامد صاحب قصة وحوار وسيناريو فيلم البريء، مشاركًا في أحد المظاهرات في فترة السبعينات، عندما ضربه أحد الجنود الأمن المركزي بالعصا، واكتشف إنه من أبناء قريته، وكانت الجملة هي أول ما نطق بها الجندي لوحيد حامد.
كتب حامد قصة الفيلم منطلقًا من هذه الجملة، ليرصد ما يحدث داخل المعتقلات والسجون، وما يحدث أيضًا داخل النفس الواحدة، الإنسان دائمًا في صراع نفسي، دائمًا أمام اختيارات، كتب حامد القصة ورسم الأشخاص بكل ما تحتويه من اضطرابات ومخاوف، القصة ليست قصة سياسية فقط، وإن كان هذا هو الظاهر والمعلن، ولكن القصة أكبر من فكرة السياسة والوطن والأمن والإعداء، إنها قصة الحياة بكل ما فيها من عبث واستمرارية.
نور الشريف يرفض الفيلم ويرفض البطولة، ويقول هذا الدور مكتوب لأحمد زكي، ربما نحن الآن بعد مشاهدة الفيلم، على يقين كامل إن أحمد زكي هو الوحيد المناسب للدور، أو بمعنى أدق من كان سيقوم بالدور بهذه الدرجة من الصدق والتقمص والاحترافية؟!، نور الشريف كان على صواب عندما رفض.
عاطف الطيب، مخرج يبحث عن المشاكل، عن صرخات المعذبين في الأرض، ينتقض الدولة والحكومة، عمل مع وحيد حامد قبل هذا الفيلم، في فيلم “ملف في الآداب” 1985، وقبله بعام كان فيلم “التخشيبة” بطولة أحمد زكي، وفي نفس عام فيلم “البريء” أخرج الطيب فيلم “الحب فوق هضبة الهرم” 1986، بطولة أحمد زكي، ولم تكن هذه التجارب هي الأخيرة بين الثلاثة فقد شارك أحمد زكي بطولة أفلام من إخراج الطيب مثل “الهروب” 1991، “ضد الحكومة” 1992، وأخرج الطيب فيلم “الدنيا على جناح يمامة” 1989 قصة وحيد حامد.
نحن أمام ثلاثي بينهم علاقة وطيدة، متفقين على تقديم عمل فني ذو قيمة، ولذلك كان القرار بالغوص داخل العمل، داخل نفسية الأبطال، الصراع يجب أن يولد في الداخل، كي ينفجر أمام الكاميرا.
تقول الأسطورة إن عاطف الطيب في أول يوم تصوير في القرية، شاهد شخص قادم من بعيد فقال أريد “أحمد سبع الليل” مثل هذا الشخص، وعندما اقترب وجده هو أحمد زكي بالفعل، وقد ارتدى ملابس الدور، وتقمص الشخصية، بعيدًا عن مدى صحة أو خطأ هذه المعلومة، ولكن الأكيد هو عبقرية زكي في تقمص الدور بكل تفاصيله، أنت أمام أحمد سبع الليل، ويختفي أحمد زكي تمامًا.
يتقمص زكي الدور لدرجة تصيب المشاهد بالخوف، زكي لا يكتفي بالتورط في الشخصية، لكنه يجبرك على التورط أيضًا، 12 دقيقة من عمر الفيلم هي المقدمة، قبل التتر، ليؤكد الطيب إن الشخصية أهم من اسم الفيلم أو التتر، أو حتى من تصنيف البطل بريء أم متهم.
يمهد الطيب بهدوء وذكاء ظهور كل شخصية في الفيلم، بداية من أحمد سبع الليل ودعائه البسيط أن يلطف الله الجو ويطرح البركة في والبقرة ويحفظ الزرع من الحشرات، وكلامه مع الحمار كأنه في حديث مع صديق العمل، السذاجة الواضحة في الشخصية، كلها أمور توضح للمشاهد بطل الفيلم، ثم ينتقل إلى البطل الثاني حسين وهدان “ممدوح عبد العليم”، المتعلم، الوقور، المثقف، البشوش، وأخيرا البطل الثالث العقيد توفيق شركس “محمود عبد العزيز”، وقمة الازدواجية والفرق الهائل بين تعامله مع أسرته والمعتقلين، هكذا وضح الطيب الثلاث شخصيات المحورية في الفيلم.
الحب عامل مهم في الفيلم، الطيب وحامد لا يبحثان عن السياسة فقط كما ذكرنا، سبع الليل يقع في غرام أخت حسين نوارة “إلهام شاهين”، العقيد توفيق يمر بأزمات عاطفية مع زوجته، الأستاذ حسين يتعامل مع الوطن الحبيب، الكل يبحث عن الحب، الكل يصارع ما بداخله، ومن سينتصر الطفل الساذج أم الجندي المطيع للأوامر، الوطن أم الحياة بعيدًا عن السياسية، البنت والأقارب والود، أم الدم والتعذيب والقتل؟
الصراع القائم والأبدي بين السلطة والمثقف والمواطن، صراع لا ينتهي، ينهال سبع الليل بالضرب على حسين أفندي ثم عندما يكتشف أنه حسين صديق القرية والطفولة، يرفض أن يكمل الضرب فيقوم العقيد توفيق بضرب المواطن والمثقف، السلطة ليس لها عزيز، فالكل خائن طالما يمشي خارج القضبان، السلطة تريد الكل كالقطار أو الجماد.
الفيلم لا يهاجم الدولة بقدر ما يهاجم العالم، يهاجم الواقع، يعلن رفضه لمجريات الأمور على كوكبنا العزيز، بعد أكثر من 20 عام من انتاج الفيلم، حدثت الثورة، وحدث كما كتب حامد في قصة الفيلم، وكما حدث معه قبل كتابة الفيلم بعدة أعوام، وسيحدث بعد كتابة هذا المقال بفترة طويلة، هي الحياة لا أكثر أو أقل.
منع الفيلم من العرض لمدة طويلة تقترب من العشرين عام، بسبب التحقيق في أمر تصوير الفيلم داخل معتقل حقيقي عسكري، وحذفت النهاية الأصلية للفيلم، بناء على قرار اللجنة التي حددها مجلس الوزراء في ذلك الوقت، وهي تتضمن 3 وزراء هم وزير الدفاع السابق المشير عبد الحليم أبو غزالة ووزير الداخلية السابق أحمد رشدي ووزير الثقافة السابق أحمد هيكل.
النهاية المحذوفة، هي النهاية المنطقية في رأي الكثير، ومنهم المخرج محمد خان الذي صرح ذات مرة إن النهاية قبل ظهور المقطع المحذوف كانت نهاية غير منطقية، فالظلم لا ينتصر في النهاية، وأن الحق يجب أن ينتصر، ولكنها نظرة رومانسية جافة، لذلك يقرر الطيب أن تولد شخصية جديدة، من رحم ما رأت، من جوف الثلاثي المتشابك، يثأر سبع الليل لصديقه حسين أفندي، ليقتله جندي لا تعمل ماهيته، لتستمر الحياة كما بدأت، وكأن الفيلم سيصبح كالأرقام لا نهاية له.
العين هي البطل الأول، كل نظرة من سبع الليل استغرقت وقت طويل حتى تصل للمشاهد بكل هذه الدقة والجمال والتقمص، كل نظرة لسبع الليل تختلف عما قبلها، وتقول أكثر ما تقول القصة أو الفيلم، في لحظات قليلة ستجد تشابه بين نظرة سبع الليل ونظرة علي في فيلم “الحب في هضبة الهرم”، أو محمد في “النمر الأسود”، نفس التيه، والخوف، والتعامل مع المجهول.
كتب عبد الرحمن الأبنودي أغاني الفيلم، “يا قبضتي” و”الدم” و”محبوس يا طير الحق”، ولحنها وصنع الموسيقى التصورية الملحن عمار الشريعي، كانت الأغاني مكثفة وقوية كعادة الأبنودي، استخدم الشريعي الناي بشكل واضح وصريح، وكان الناي رفيق بطل الفيلم، فتداخلت الموسيقى التصورية مع وروح الفيلم، سجل الشريعي الأغاني بصوته بعد تليحنها، حتى يتثنى للمطرب غناءها، ولكن قرر الطيب أن تبقى الأغاني بصوته عمار، وأعتقد إنه قرار صائب، صوت عمار أضاف للكلام واللحن، وكأنه صوت قادم من الصحراء البعيدة، كأنه صوت من السماء يرصد ويسجل ما يحدث بحيادية تامة.
انتهى الفيلم، ولكن سيستمر الصراع الأبدي بين السلطة والمثقف والمواطن، وبين الإنسان ونفسه، لا الخير انتصر ولا الشر، ماتت السلطة ومات المثقف والمواطن، لتستمر الحياة ويستمر الصراع
.
نشر في موقع التقرير 9/2014
You must be logged in to post a comment.