فرصة للموسيقى تمر في الجسد، تشرب القلب على مهل، مع أغنية «ست الحبايب»، الأغنية الأشهر عن عيد الأم والأمومة.
قبل السقوط في لعبة الجمال والخيال، نقف هنا أمام أغنية، لا مناسبة، لذلك فنحن نقف أمام لحن لا كلمات، قال لي صديقي محب السينما: إنه يعتقد أنّ البطل في كلّ فنٍّ أساسي هو الشيء المميز في أدواته، الخصوصية في صناعة هذا الفن، فالكاميرا هي البطل الأساسي في السينما، والكلام هو البطل في الشعر، لذلك فالموسيقى هي البطل الأول والأساسي في الأغنية أياً كان نوعها وشكلها ومناسبتها.
الأغنية تتكون من عدة عناصر وجدت لتساعد اللحن في توصيل معنى وروح الموسيقى، الكلمات والمغني أهم عنصران في هذه الصناعة، بعد البطل الرئيسي اللحن، ولنتخيل أننا رجعنا للوراء لنهاية الخمسينيات، وبالتحديد عام 1958، ونستمتع بجلسة تخيلية مع ثلاثي الأغنية.
أولاً: الشاعر حسين السيد، شاعر الأسرة بكل أفرادها وتباينها، فهو من كتب «لا مش أنا اللي ابكي» وهو صاحب تجربة أغاني الأطفال مع محمد فوزي، وهو الشاعر الثوري صاحب أغنية «دقت ساعة العمل» لصديقه محمد عبد الوهاب، وتجده في أشهر أغاني المرح «أبجد هوز» وفي الاستعراضات تجده منافساً لفتحي قورة فيكتب استعراض «مين يقدر على قلبي» بكل تنوعات شخصياته المختلفة، وتجده في «أحبك ياني» لصباح وفي الوقت نفسه يكتب «أكلك منين يا بطة»، هكذا تجده في كل مكان.
ثانياً: فايزة أحمد صاحبة الصوت الجميل والغريب، الصوت المنغمس في الحزن الجليل، والفرح الجميل، صوت فايزة لا يصنف وهذا أهم ما يميزه عن باقي الأصوات، فلا هو صوت حزين كما يجب، ولا هو صوت الفرحة أيضًا، هو صوت محايد، صوت الحياة دون أي تدخلات، صوت يجمع لك الحياة بكل ما فيها من تناقضات وتغيرات، كما تريد أنت بل الأصح كما يريد مزاجك، «وهو صوت حار وشهواني، يطربني كثيراً عندما تتحكم به وتسيطر عليه»، هكذا قال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب.
ثالثاً: والأهم هو الملحن الأذكى والأجمل في تاريخ الموسيقى العربية، الموسيقار محمد عبد الوهاب، ومن هنا تبدأ الأغنية، عبد الوهاب يحضر لحناً لأغنية عن الأم، مشاعر الأمومة، كيف يحول هذه المشاعر لموسيقى، كيف يصنع لحناً يتسع لأكبر عدد من البشر، بما يساوي مشاعر عامة وهامة مثل مشاعر الأمومة؟
كان الحل هو المقام البياتي أوسع المقامات انتشاراً، وهو مقام إلهي كما قال أحد الشيوخ، وأغلب المقرئين يبدأون قراءتهم من هذا المقام لذلك يقال عليه أيضًا مقام قرآني. أما السبب الثاني أن المقام مقام بسيط ومتباين المشاعر، فهو ذو طابع شعبي في بعض الأحيان كالسيرة الهلالية والمبهج أيضاً كأغنية التراث على الدلعونة، وهو العاطفي الهادئ كأغنية سألوني الناس، وهو العاطفي المرتبك والمزدحم كأغنية جانا الهوى، وهو المحزن والمحير والوجودي في أغنية كل دة كان ليه.
من هذا المقام وهذه الأسباب كان اللحن، وما زلنا مع ذكاء عبد الوهاب في صناعة لحن يخلد للأبد، كانت طريقة الفورم في صناعة اللحن هي الأنسب، تتحدث لمشاعر تسكن كل طبقات المجتمع، فكانت الفورم هي أنسب الطرق، والفورم هي المقاطع المكررة لحنياً.
القانون والكمان والناي ثلاثي المقدمة، دوامات موسيقية بالكمان يقطعها الناي والقانون، كبداية لما سيقال، وكأن شخصاً يستدعي الذكريات، ويفكر فيما مضى، دون السقوط في مشاعر بعينها لا حزن ولا فرح، السقوط عليه والمشاعر المكتسبة يتركها لمزاج المستمع.
بداية من سطوع صوت الناي، ودخول صوت فايزة الهادئ، يختفي الناي خلفها، وتتخذ الكمان مهمة الفصل بين صوت فايزة، حتى تصل فايزة لجملة «يا رب يخليكِ يا أمي» لتصعد إلى أعلى قمم جواب البياتي، وكأنها تصرخ في الجميع، وهنا يظهر لأول مرة صوت الكورس، وهو كورس مقصود ومدروس، لتجد صوت الكورس الرجالي، وبعده صوت الكورس النسائي، هكذا يؤكد عبد الوهاب، هي أغنية كل المشاعر، لا حزن ولا فرح، اختلاف طبقات الصوت بين الكورس الرجالي والنسائي يجعلك متذبذباً بين المشاعر المتباينة.
دوامات الكمان ومن بينها الناي، كأنك تتذكر مشاهد سريعة من حياتك، وتحاول الروح التشبث بهذه اللحظات في شكل صوت الناي المسكن للروح والجسد أكثر من كونه محزناً، «زمان.. زمان..» وقفة زمان في بداية الكوبليه الأول، هي وقفة استعداد للرجوع إلى الماضي، فرصة للمستمع أن يحترم ما مضى، وهي حركة قرآنية في الأصل، ليضيف عبد الوهاب لمسة قدسية للأغنية دون أن تتفهم ذلك، ولكنك تشعر بقدسية غريبة لا تعلم مصدرها، ويزيدها وقاراً صوت فايزة في هذه الوقفة.
فايزة وزخرفات الصوت، فلتسمع حرف الهاء في كلمة «سهرتي»، وتبحث عن حرف الحاء والهواء الحزين في جملة «ولسه برضه دلوقتي»، كلها أضافات صغيرة ومهمة كالملح على الطعام، وقبل جملة «أنام وتسهري» تتأهب الكمان لسباق الذكريات في تحدٍّ مع صوت فايزة، والكسبان هو المستمع، تأتي الكمان وكأنها تصعد سلماً أو مطلع جبل أو تجري في فرحة عامرة، ثم صوت فايزة، ويبدأ السباق الجميل الكمان وفايزة وكأن أماً تجري وراء ابنتها، وهو التغير الوحيد في مقامات الأغنية، فيغير اللحن من بياتي لحجاز، في استخدام غير كامل للمقام، ولكنه يحسب كتغير، ويستمر عبد الوهاب في إضافة الملح، فالحجاز هو مقام الآذان الأشهر، والجملة في الكوبليه تقول «تصحى من الأدان»، واستمراراً لقدسية الأغنية وموضعها، وتستمر النقلة لمقام الحجاز في كل كوبليهات الأغنية.
تحتوي الأغنية على ثلاث مقاطع غير المذهب الرئيسي، في كل كوبيله تختلف بداية الموسيقى، يختلف التوزيع ويعيد عبد الوهاب توزيع الأدوار، في البداية كان الناي ومن خلفه الكمان ومن بعيد يأتي صوت الإيقاع المقسوم وصوت صاجات الرق، في الثاني وقبل جملة «تعيشى ليا يا حبيبتى»، يأتي القانون ليهدئ الموقف وكأنك تنزل السلم بفرحة طفل، مع الكمان ويستمر الإيقاع في الخلف دائماً، ويعلوا صوت الإيقاع في الكوبيله الثاني، وفي الأخير تكون البطولة للكمان في صحبة الإيقاع، ولا ننسى كلمة حبيبة من فايزة والكورس.
وكان الموسيقار فريد الأطرش حاضرا في جلسة عبد الوهاب، وربما كان ذلك سبباً لتصريحه في برنامج إذاعي عن أنه كان يتمنى أن يغني أغنية الأم لفايزة أحمد، ليغني مثل هذا اللحن، لنلاحظ أن الأغنية رغم بساطة لحنها، إلا أنها تطلب صوتاً خاصاً، صوتاً يمتلك القوة والرقة في الوقت نفسه، صوتاً محايداً لا حزيناً ولا فرحاً.