قراءة في ديوان خذ ساقيك إلى النبع لكامل فرحان صالح
شريف حسن
الشعر ليس له وقت، فهو الحي الميت الظاهر الباطن، تجلس فترة كمن يصطاد في صحراء، لا تجد ما تكتبه، وتشعر وكأنك خرجت كل ما جعبتك من حروف وقصائد، وربما تنسى الأمر كله، وفجأة دون مقدمات تجد الموج يحوط بك من كل اتجاه، لا يعلم الوقت ألا هو، إنه الوحي أو الشيطان أو كلاهما.
مع ديوان “خذ ساقيك إلى النبع” 2013، الديوان الرابع للشاعر اللبناني “كامل فرحان صالح”، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وقد جاء بعد توقف عن نشر الدواوين شعرية دام 20 عامًا، وكان ذلك بديوان “كنّاس الكلام” 1993.
خلال هذه الفترة، لم يتوقف كامل عن كتابة الشعر، ربما أصبحت الكتابة بشكل أقل، وربما سقط من حسابته لفترة ما، ولكنه كان دائمًا يرجع له كالهارب، طمعًا في بعض الخفة المحتملة فيه. خلال هذه المدة قد أنجز رسالة الماجستير “يوسف الخال ودعوته اللغوية في” 1998، ثم الدكتوراه “الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي” 2004، وفي عام 2000 أصدر روايته الأولى جنون الحكاية، وفي عام 2010 أصدر روايته الثانية “حب خارج البرد”.
ربما كل ذلك أنهك روحه وعقله، لابد من واحة الشعر للراحة، السقوط في بئر الجمل القصيرة، البحث عن الجمال للجمال، متعة التخيل والتعري بكل حرية، لذلك الديوان في مجمله ديوان للأنثى، ويشرح كامل لذلك إنه تصالح مع اللغة ومن ثمَ كان التصالح مع الأنثى، ولينجذب للغة الأنثى والأنثى اللغة، مؤكدًا أن الأنثى هي المعنى ولا معنى خارجها، واللغة طريق التواصل هي أنثى أيضًا.
من هذه الإشكالية كان الديوان، يجوب كامل طوال الديوان في محراب الأنثى، يقدسها ويعشقها ويتوسل إليها، ويصارحها، ويدللها، حتى عندما اشتبك مع الرب فكان من أجل الأنثى وأجل تقديسها، اشتباكًا رومانسيًا، بعيدًا من فكرة الصدامية.
“إلى أرواح من عبروا“
كان ذلك هو الإهداء في بداية الديوان، لتشعر بسلام تام قبل أن تقرأ، أنت هنا مع شاعر يقر بالسلام التام لكل من عبروا، وربما كان تنبيهًا إن ما بداخله قد يخلوا من الصراخ الشعري، فهو أقرب لفترة استجمام في رحاب الطبيعة الأنثى.
جاء اسم الديوان متناسقًا مع الحالة الشعرية من الجمال والحب والطبيعة، الإيروتيكية الجميلة، والغزل العفيف الغير مصرح به، مستخدمًا خفة اللغة الأنثى، ليذكرنا بجملة “وتعالي بين الدفتين قصري” للشاعر فؤاد حداد في قصيدة الحلزونة، وهي بالمناسبة من أجمل ما كتب في العامية المصرية.
“خذ ساقيك إلى النبع
اعصر معنى البارحة من ريقِ النبوءات
لتطهّر الأرض الأولى من جوعِ ربٍّ يتسلّى بالأرقام
وارقص مثلي
على عمرٍ يمضي
نحو حليبِ الآثام المعطّرة بالزعفران.”
في أول قصيدة والتي تحمل اسم الديوان، تشعر وكأنها تطهير من الآثام، قبل الدخول لهذا المحراب، اغتسال قبل الإحرام، اخلع ما عليك إنك في رحاب الأنثى اللغة.
“الوردة كاشفة أسراري. وعشق الوردة أفقدني حياتي“
هكذا قال “فريد الدين العطار”، موضحًا عشقه للورود، وفي بداية قصائد الديوان توجد قصيدة “أتملى بللكِ بسورة مريم”، وفيها يقول كامل ” واسميكِ وردة وليغضب أمبرتو إيكو والعطار”، وللروائي والفيلسوف الإيطالي “أمبرتو إيكو” رواية شهيرة اسمها “اسم الوردة”.
من اللهفة، لحزن الحبيبة، والتدرب على غيابها، وحتى قصيدة “أمد يدي لأراكِ”، كلها قصائد تحوم حلو فكرة ضعف العاشق وحبه، يتحرك كامل بين السماء والأرض باللغة وبين الأساطير والواقع، والله والأنبياء، ولكنه أيضأ يترك الكلام يخرج كالحب دون تفكير، فيعود للصور البسيطة الهادئة، الأنثى هي كل شيء.
“أردد كتلميذ نجيب
تعثر الولد في الممحاة وكسر المسطرة عندما أحبك“
الأنثى هنا في الديوان هي الحالة الأساسية، هي محراب الديوان والحياة أيضًا، كان من الطبيعي التعامل مع ذلك في الديوان، ويرى كامل أن الأنثى هي طريق الأمان والإيمان.
“كثيرةٌ أنت كجيشٍ روماني
كعربٍ يثرثرون بعد منتصفِ الليل
وقريبةٌ أنت كعمري على شفاهي
كمروحةٍ سماوية تصاحبُ عبوري إلى الإيمان“
الوحدة أمر مهم للعاشق والزاهد، ستجد الوحدة في بعض قصائد الديوان، الوحدة بأشكالها المختلفة، كأنه يقول إنه وحيد كديكتاتور، أو إنه يمشي وحيدًا كالبحر، فالوحدة بين عشق الأنثى وعشق الذات.
“الحب معنى ضيق“
ربما كانت هذه الجملة من قصيدة “مقام الأنثى”، تلخص حالة الوجد والعشق في الديوان، فالحب ضيق ربما لا يتسع لهذا الفيض من الأحاسيس والمشاعر، وربما كان الضيق فرصة للتأمل والبحث في ثناياه عن تفاصيل جديدة.
كان الديوان الذي يحمل 44 قصيدة في 145 صفحة، ربما كان الديوان طويل، ربما يصبك الممل في بعض أجزاءه، ولكن في كل مرة يبدأ الملل الاقتراب منك، ستجد جملة تجعلك تكمل، يوجد هنا شيًء جميل، يوجد هنا شاعر يريد أن يبوح عما بداخله بخفة فراشة، وقلب عاشق.
“يبتسم الله كلما نطقت اسمك
كلما قلت يا عمري“
لبنان والحرب الأهلية، رغم كل هذه المحاولات من الخفة، ألا أن الابتعاد عن لبنان والحرب الأهيلة وتأثيرها على أهلها، وخاصة المبدعين منها، كان كالموت سيلاحقك ولو كنت في بروجًا مشيدة. لذلك جاء نص “الحرب طحين الثكالى”، ويتسأل كامل في نهاية القصيدة عن علاقة الانتصار والموت، وكان تعبير “الموت الكثير” أصدق تعبير عن دمار الحروب عامة، والحرب الأهلية في لبنان خاصة
“طفلتي تسرق نظرة عالية
“بابا.. لماذا الأبيض يبكي على لبنان؟“
“مشى في أرض لا زرع فيها”، هو اسم القصيدة الوحيدة الطويلة في الديوان، هي قصيدة كتب عليها نفس الإهداء الذي كتب في أول الديوان “إلى أرواح من عبروا”، قصيدة تسبح في بحر الصوفية، الحديث مع الذات والروح، البحث عن الأنثى داخل النفس، والبحث عن الروح أيضًا، هي قصيدة كما وصفها كامل نفسه تنهيدة الكامل.
في نهاية الديوان يعود كامل للبداية، للإهداء مرة ثانية، نحن هنا نتسامح مع كل من عبروا في حياتنا، نحن “نتعاتب لنبقى أنقياء”، هكذا جاءت القصيدة الأخيرة في الديوان، وربما نجحت خطة الراحة والهروب من ثقل النثر إلى خفة الشعر.
“نحن الطيبين
على أجسادنا عطر أحبة رحلوا
والمغفرة معجزتنا الصغيرة
نحن الطيبين
لا نقدر ألا على الحب.. كالله تمامًا“
- 12/ 2014نشر في موقع تقرير