شريف حسن
“صدقت أني مت يوم السبت“
هكذا قال محمود درويش في قصيدته القصيرة “إجازة قصيرة” في أخر ديوان قبل وفاته “آثر الفراشة”، ليموت بعدها بعام في 9 أغسطس 2008، بعد أن دخل في غيبوبة وتم فصل الأجهزة بناء على وصيته.
كبرهان أخير من درويش وكأنه لم يكتفي بما قدمه، أنه خلق ليكون شاعرا، لا أكثر ولا أقل، صدقت نبوءته ومات يوم السبت، وها نحن يوم السبت في الذكرى الـ 6 لرحيله، ربما لا استبعد اختيار درويش لهذا اليوم حتى يضع على بيت واحد في مشواره لمسة إضافية، ربما تزيد صدقه ولو قليل، درويش لا يبخل على شعره ولو كان بموته، وهو القائل في الجدارية “بيد الحظِّ والموهبةْ”.
الموت في “الجدارية” مختلفا عن الموت في “أثر الفراشة”، درويش في الجدارية كان يعي إنها فرصة لتخليد شعره، يعلم أن “والوحي حظُّ الوحيدين”، لا وحدة أكثر من المرض، وحدة مستمرة، وخصوصية المرض، في جسدك أنت وحدك، وترى الموت وحدك أيضًا.
تكفي الغيبوبة لكتابة قصيدة مخلدة مثل “الجدارية”، لكن كان الشعري يفوق الشخصي في بعض الأحيان، الحديث بنبرة من نجا، خطبة فائز بالحظ لا بمجهوده، أما بعد 8 أو 9 سنوات وقت كتابة آثر الفراشة، كانت كتابة الخلد، حديث الميت عن الموت.
محمود مات قبل موعده بفترة، كان يعي جدًا كلمة الدكتور الخاص به أنه سيعيش لمدة 10 سنوات في 1998، “فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق عشرُ دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً وأُخيِّبَ ظنّ العدمْ”، أما في آثر الفراشة يكتب من قبره، “وحين دقَّ الموتُ على بابه مستأذناً بالدخول , وبَّخه قائلاً : لماذا وصلت قبل الموعد بعشرين دقيقة ؟ اختبأ في الحمام. ولم يفتح له الباب، كأنه مات في الحمَّام!”.
مات درويش بالقتل الرحيم، فصلت الأجهزة عنه بعد دخوله في غيبوبة، كما وصى، والوصية لا هي وليدة المرض أو الموقف، نرى قبلها بعام أو أكثر في “أثر الفراشة” قصيدة “رصاصة الرحمة”، أغارُ من الحصان، فإذا انكسرت ساقه وأحسّ بإهانةِ العجز عن الكرِّ والفرِّ في الريح، عالَجوه برصاصةِ الرحمة”.
يريد أن يصبح أول شاعرًا يكتب ديوانه الأخير من القبر، حتى لو كان سبقه أحد يريد انتهاز العزلة على أكمل وجه، “العزلة هي اختيار المُتْرَف بالممكنات … هي اختيار الحرّ”.
تجد الجماد معبرًا عنه في “ليتني حجر”، في البداية “لا أحن” وفي النهاية “أحن”، ولكن يبقى الحجر حجرًا كما هو، وفي قصيدة “البيت قتيلًا” يفكر في الجماد، كأنه يفكر في نفسه، “أشياؤنا تموت مثلنا. لكنها لا تُدْفَنْ معنا!”.
يعلم درويش علم اليقين إنها المرة الأخيرة، انشقت الساعة واقترب الموت، كما في نص “أبعد من التماهي”، “التهمني الوحشُ ولم يهضمني. وخرجتُ سالماً أكثر من مرة، أما القلب فإني أراه يتدحرج، ككوز صنوبر، من جبل لبناني إلى رَف!”.
الحياة غابة، ودرويش لا يسمع صوته في الغابة، “لا أسمعُ صوتي في الغابة حتى لو..”، يكررها في المقاطع الثلاث، وفي المقطع الأخير يصرح بشجاعة الميت وبصيرة الصوفي “لا أَسمع صوتي إلّا إنْ خَلَتِ الغابةُ مني”.
يصرح درويش في قصيدة “واجب شخصي”، “للبطولة أيضًا تاريخ انتهاء صلاحية”، النهاية قادمة، وفي العالم الأخر أيضًا ما زال درويش يقدم مبررات عن اتهامه بالخيانة أو الزهد في المقاومة، “وأدرك أنه قام بواجبه الوطنيّ!”، اتم عمله كما يرى أنه يستحق.
الدمار والقتل لن ينتهي وباقي بقاء الحياة، ولنرى جزء من كتابة الخلود، يقول في قصيدة “روتين”، واسمها كافي لاستنتاجات كثيرة، “مطالبون بمهمة صعبة: الوساطة بين الله والشيطان للتوصل إلى هدنة قصيرة ندفن خلالها شهداءنا!“، وكان أيضًا يصرخ كلنا سنموت في قصيدته “عدو مشترك” من فوق الجدار الفاصل بين فلسطين وإسرائيل، “فلا يدركون إلّا متأخرين، أن لهم عدواً مشتركاً هو: الموت”.
“لا أكره شاعراً يكرهني. لكني أعتذر عما سبَّبتُ له من ألم!”، يقولها صريحة واضحة، يعلم إن وجوده كان سببًا في ظلم شعراء آخرين، يرى درويش قيمة المكروه منه قبل المحبوب، مؤكدًا إنه يكتب من العدم، فهو اللامبالي بما حدث وبما يحدث وسيحدث، يرى نفسه غائبًا، حين يقول في قصيدة بنفس الاسم، “هكذا يقتضي النص: لا بد من غائب للتخفيف من حمولة المكان!”.
العزلة ليل، والليل عزلة، وفي العزلة يغوص الشخص مع ذاته وفيها، يبحث عن معنى، جواب للسؤال المعاد “ماذا… لماذا كلُّ هذا؟!”، ولا نندهش إن السؤال هو اسم أحد قصائد الديوان، كل هذا يحدث في العزلة، “وفي الليل، يضيق الفارق ويتسع التأويل!“.
يتسع التأويل ويكثر التخبط، رغم سيطرة فكرة الخلود والكتابة من العدم على أغلب صور الموت في الديوان، ألا أن الليل والتأويل يتسعان للحقيقة، تجده متحيرًا في قصيدة “إجازة قصيرة”، “فلربما أنا بين بين وربما أن ميت متقاعد يقضي إجازته القصيرة في الحياة”، وهائمًا متيقنًا في “كما لو كان نائمًا”،”“أنا حيٌّ على الرغم من أنني لا أشعر بالألم“. لم يظن هذه المرة أنه نائم. كان متأكداً من ذلك!“.
كالعامل الجديد يسأل رفقائه الأقدم في المكان عن طريق العدم، فيرثي صديقه الشاعر “سركون بولص” في قصيدة “الطريق إلى أين“، “نحن سُكَّان هذا الطريق الطويل إلى هدف يحمل اسماً وحيداً إلى “أين”؟”.
حان الآن موعد الموت، يسكنه هاجس الأسطورة والخلود كالأنبياء، يريد تخليد شعره بخلوده، كما قال في “فاكهة الخلود”، “يفكرون بتدريب التاريخ على القراءة. ويفكرون بما هو أصعب: برشوة الخلود. دون أن يعلموا أن الخلود لا يزور القبور. وأَنه يحبُّ الفكاهة!“، فيرى الموت ولادة “تشعر أنك طفلٌ سيُولّدُ عما قليل!“، وإن في الموت موعد مع الذات، “لأنني على موعد سِرِّىّ مع … نفسي!“.
في هذه المرحلة كان درويش هو الشخص الذي قال عنه “نسي النصَّ المكتوب وتبخَّر النصُّ المرتجل ونسي المشاهدين، واكتفي بتجريب الصوت: واحد، اثنان، ثلاثة. ثم كَرَّر: واحد، اثنان، ثلاثة حتى أُغمي عليه وضجَّت القاعة بالتصفيق!“، هكذا كان درويش في أخر أمسياته في بيت لحم، وقد قال ذلك صديقه الكاتب “فيصل دراج” عندما سأله درويش عن رأيه في الأمسية، فقال كأنك كنت تقول: “أنا محمود درويش عمري سبعة وستون عامًا أقرأ القصائد التي أريد بالشكل الذي أريد أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة من الصنعة وطقوس الشطارة”، فكان رد درويش: أخيرًا أصبحت أنا.
إذا قيل لي: ستموتُ هنا في المساء
وضح درويش هدوئه ورضائه من فكرة الموت، احترامًا للفكرة العامة، إنه ذاهب للراحة والاستجمام، فنرى قصيدة “بقيَّةُ حياة”، تشرح المعنى وتجعل الموت فعلا مبهجًا “وأَلبسُ أحدث قُمصانِ إيطاليا وأُشَيِّعُ نفسي بحاشِيَةٍ من كَمَنْجات إِسبانيا ثُمَّ أمشي إلى المقبرةْ!“.
وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟
مرة ثانية يطرح درويش نفس السؤال ولكن هذه المرة، يسخر من الموت سخرية الميت، كوميديا سوداء، يظهر حب درويش للحياة في اسم القصيدة “أَلحياة … حتى آخر قطرة”، وفي منتصف القصيدة يظهر درويش فيلسوف الخلود وشاعره، “وإذا كنتُ موجوداً، كما أنا الآن، فلن أفكِّر بالعدم. وإذا لم أكن موجوداً، فلن يعنيني الأمر”، وفي نهاية القصيدة يفضح نفسه بنفسه وينكسر أمام هذا الفعل البلطجي وليقول بلهجة عصيبة شامية، “فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو كنتُ أشجع من أحمق، وأقوى من هرقل؟”.
هكذا في القصيدة الأخيرة يظهر درويش في حالاته الثلاثة، المحب للحياة والفيلسوف والبشري الضعيف. وهكذا نجحت صفقة درويش مع الموت ليرحل عنا وعمره 67 عام بأمر منه هو.
“ويا مَوْتُ انتظرْ، يا موتُ، حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع وصحّتي،
لتكون صيَّاداً شريفاً لا يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع. فلتكنِ العلاقةُ يننا وُدّيَّةً وصريحةً
لَكَ أنَتَ مالَكَ من حياتي حين أَملأُها ..ولي منك التأمُّلُ في الكواكب“
- 9/8/2014 نشر في موقع دوت مصر