شريف حسن
“فقد وجدت أني كنت في العمل السياسي ساذجاً سذاجة المبدع“
هكذا قال إميل حبيبي عنه نفسه في أحد حواراته الصحفية، لم يستطع إميل إن يترك السياسية، وأيضًا لم يقدر على كتمان شغفه بالأدب، فوقف بين الضفتين، مرة يصيح كسياسي محب للأدب، ومرة أخرى يقف وقفة المثقف والأديب المشغول بالقضايا السياسية لوطنه، ربما تحسن أن لا فريق بين الضفتين، ولكن في روح إميل كانت معارك وحروب وبعض من أوقات الهدنة.
لذلك نرى الروائي عبد الرحمن منيف يتحدث عن إميل في كتابه “لوعة الغياب” قائلًا:” كنت أتمنى لو أن أميل حبيبي هجر السياسة، ووهب حياته للأدب، وقد خسر الكثير، خاصة في السياسة، وخسر الأدب من غيابه قبل الأوان، أشعر بأسى مضاعف، لأن اميل حبيبي يستحق مكانا أرفع في مجال الأدب، الذي لم يوله كل ما يستحق، وانصرف إلى السياسة التي لم تورثه سوى الالتباس وسوء الفهم وربما الفشل ..لقد كان مثل معايد القريتين، كما يحب أن يقول عن نفسه!”
التخبط في الحياة السياسية، وتورطه في إشكالية الوطن والحرب والسلام، كانت سبب مهم في شكل كتاباته الأدبية، ومع وقوع الهزيمة في النكسة 1968، كانت الكتابة هي المهرب الوحيد، كانت جملة الروائي الروسي “ليو تولستوي” تدق في ذهنه طوال الوقت؛ “لا تكتب إلّا إذا شعرتَ أنّك لا تستطيع مواصلة العيش إلّا بالكتابة”، لذلك كتب ونشر قصة “حينَ سَعِد مسعود بابن عمّه” في العدد الرابع من مجلّة “الجديد” عام ،1968 حين كان يرأس تحريرها الشاعر الراحل “سميح القاسم”.
كتب إميل تحت اسم مستعار هو “أبو إسلام”، زعمًا منه إنه سياسيًا يحب الأدب، ولكن القصة لاقت إحسانًا كبيرًا لدى قراء المجلة والمجتمع الثقافي آن ذاك، وعلى أساسه نشر باقي القصص الخمسة في أعداد لاحقة، لتكتمل بذلك المجموعة القصصية “سداسية الأيام الستة”.
تصاحبك فيروز وصوتها الدافئ العذب، طوال المجموعة القصصية، مع بداية كل قصة تجد مقطع من أغنية لفيروز، تدخلك إلى حالة القصة، مع كلمات وألحان الاخوين الرحباني.
“لماذا نحن يا أبتي
لماذا نحن أغراب؟
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب“
كانت هذه الكلمات من أغنية “غرباء” لفيروز، بداية أول قصة في المجموعة، من كلمات الشاعر الفلسطيني “هارون هاشم رشيد”، وقد جاء شعراء آخرين في المجموعة، مثل الشاعر الشهيد؛ عبد الرحيم محمود وقصيدته الشهيرة “الشهيد” وقد جاء بيت منها في قصة “العودة”، وتمنى إميل أن تغني فيروز من كلمات شاعر الجاهلية “هدبة بن الخشرم” في قصيدة “طرِبت وأنت أحياناً طروب”.
“عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان
ويأتي أهله النائي الغريب!“
“أغنية لم تنشدها فيروز” “أغنية لم تنشدها فيروز كلاما ولكنها تنشدها دفئا”
الحرب هي أساس كتابة المجموعة، النكسة والهزيمة هما أساس السداسية، حلم الرجوع وحلم السلام، للهزيمة عيوب كثيرة، ولكن هل لها أيضًا مميزات؟، يكتب إميل بلهجة طفولية، الطفل يقع في براثن الاختيار، الوطن أم أن يكون لي عائلة، الأطفال تتعامل مع الأمور دون تعقيدات الكبار، دون ما يصح وما لا يصح.
لا يهم طلقات الرصاص، ولكن ما يهم أميل هو آثر الطلقات في الحائط، ما تفعله الحرب فينا، وما آثر الهزيمة على النفس، دائمًا كانت كلمة الحرب هي الأقرب لكلمة حب، في قصة وأخيرًا نور اللوز، نجد العاشق قد نسى إنه عشق، بل إنه يبحث عن العاشق، يبحث عن نفسه ولا يجدها، ماذا يحدث ليصل الشخص منا لهذه الدرجة من النسيان، لم يحكي لنا إميل، وترك لنا حرية البحث عن السبب، والخوف من هذا المصير.
“هل تذكر إنه في مطلع شبابنا كان لنا صديق، أحب فتاة من القدس أو من بيت لحم، من هناك، وكنا نحب حبه؟
-كلنا أحب، وكنا نحب حبه.
-بل هذا الصديق كان حبه أجمل من حبنا. وكانت له قصة.“
الوقوع في فخ الثنائيات المضادة، الحب والكره، الفرح والحزن، السياسة والأدب، الحلم والواقع، إميل كان يبحث عن نفسه قبل أي شيء، يبحث عن الأديب داخل شقوق السياسي المهموم، وتشده السياسية والشيوعية من داخل الكتب والأدب، بداخل كل شخص، أفكار متصارعة ومتباينة ومتنافرة، يستمر العراك حتى النهاية، ولا ينتصر أحد.
“قصة مدينتين، هذه هي الازدواجية تعويذتي التي حملتها حول عنقي منذ الصبا.”
رغم إن المجموعة القصصية صغيرة، ولكن إميل كثف فيها كل ما يملك من انماط القصة القصيرة، وتباين الأسلوب الأدبي، وللحوار أشكال مختلفة في القصص الستة، وطرق التعامل مع الأوضاع الجديدة، لم ينسى إميل من استخدام الأساطير في قصة “الخرزة الزرقاء وعودة جبينة.
“وكان – بلا طول سيرة – أن سمع الأمير الشاب الغناء. فاستوقفه، فانجذب اليه. فعاد في اليوم التالي، فوقع في قلبه. وعاد، سبعة أيام، فوقعت في قلبه، فلم ينم سبع ليال بطولها. حتى أطلع والدته على أمره. فانتقلت جبينة، زوجة وأميرة، من الحقل الى القصر. وعبرت سنة على جبينة الأميرة. ووضعت رجلا على رجل وأنجبت صبيا مثل العجل.”
والحنين والإصرار للرجوع ستجده في قصة “أم الروبابيكا”، وهذه الأم الجالسة بمفردها، تكتشف أسرار الراحلين والمهاجرين، ترى سخرية التاريخ، ترى الحريق من بعيد، وتكتب رسائل لا ترسلها لأصحابها، يحتفظ إميل لنفسه بما تحمله الرسائل من حكايات وأسرار.
“فلما وعدتها قامت وذهبت إلى صندوق عتيق، فأخرجت منه حزمة أوراق بالية. ثم مدتها إليّ وقالت: هذه هدية مني إليك.
– ماهي؟
– رسائل كنت أكتبها ولا أرسلها إلى صاحبها. ومنها تعرف لماذا بقيت في الوادي.“
وما زلنا مع الرسائل ولكن هذه المرة في القصة الأخيرة “الحب في قلبي” ورسائل السجن، نساء داخل السجن والربط بين الماضي والحاضر، كأنه قالها قبل صديقه الشاعر محمود درويش؛ “والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطالِهِ يلْقي عليهمْ نظرة ويمرٌ”، وبين حصار لينينجراد في الحرب العالمية الثانية، وما يحدث في فلسطين.
تتسم كل نصوص المجموعة الستة بروح السخرية، ستجد دائما نبرة سخرية بين السطور، إميل ساخر بطبعه، سخرية هادئة، سخرية ممزوجة بصراعات وألم، وهكذا وصفه محمود درويش في قصيدة رثائه، “موعد مع إميل حبيبي“.
“كان كعادته ساخرًا
كان يسخر منا ومن نفسه
كان يحمل تابوته هاربًا من جنازته
قائلًا: سينما
كل شيء هنا سينما“
نشر في موقع التقرير 12/ 2014