“شاعر أذل الشعر. جعله يلحس جزمته بلسانه مثل كلب“
هكذا قال عماد أبو صالح عن صديقه الشاعر “آرثر رامبو”، في نص “واكره أمك” من كتاب “مهندس العالم” 2002، الجملة توضح مفهوم عماد عن الشعر وعلاقته برامبو، يرى إنه انتصر عليه عندما قرر هجره تمامًا، هذا فرق بيني وبينك، هكذا قال رامبو للشعر، لم يكن هنا الانتصار، انتصر رامبوا على الشعر حقًا عندما حقق وعده، عندما قرر هجر الشعر نهائيًا.
ولكن دائما وأغلب الوقت، ينتصر الوحي، ينتصر شيطان الشعر، يذل الشعر الشاعر ويجذبه من قميصه ليتبعه أينما أراد أن يذهب، لا يملك الشاعر إلا الولاء والطاعة، طاعة بطعم الرهان، ومتعة القمار وحب التجربة والفضول.
الشعر وحشًا أليف، لا تعلم متى ينقض عليك ليطرحك أرضًا، يجردك من كل شيء، يبكي ويبكي حتى يرق قلبك له، ليغتالك في لحظة، يغدر بك بكل وحشية، والابتسامة لا تفارق وجه، ورغم كل ذلك ما زال الشاعر يحب تربيه الوحش، ويراهن على ترويضه..
عبد الرحمن الأبنودي، شاعر الصعيد، أهم شعراء العامية في تاريخها رغم أنف الجميع، رغم أنفه هو شخصيًا، بعيدًا عن التطرق للسياسة، وتباين آرائه على مر تاريخه، ولكن الأهم هو ضعف مستوى قصائد الأبنودي، وخاصة من بعد الثورة، قصيدة الميدان والتي تناول فيها ثورة 25 يناير، جاء النص في مجمله ضعيف، لا يليق بالحدث وجلاله وقتها، جاء النص سريعًا، يجلس الأبنودي ليكتب من بعيد، فكان النص غير صادق، تلمح الشيخوخة في النص، نسى كلام رفيقه الراحل “أمل دنقل” عن كتابة النص وقت الحدث وإن ما يفتح الجرائد ليرى ماذا يحدث ليكتب عنه، فما هو إلا شاعر ستكنسه الإيام.
“مش دول شاببنا اللي قالوا كرهوا أوطانهم
ولبسنا توب الحداد وبعدنا أوى عنهم
هما اللي قاموا النهارده يشعلوا الثورة
ويصنفوا الخلق مين عنهم ومين خانهم“
ربما راح عن ذهن الأبنودي أيضًا كل ما كتبه قبل ذلك عن العلاقة بين الشعب والحاكم، بين الحلم والواقع، بين الثورة والسياسة، نسى ما قاله في قصيدة “المتهم”
“الوطن هو الديانة
الوطن من غير زنازينهم …
..خيانة
ويا رفقتي
الديب لسه ما ماتش
والساعة لسه ماجاتش
وفي غياب الشعب
الديب مصاحب الكلب
والشمس عايفة الدرب
وغايبة خلف الجبل
ومش كفاية حكاية الديب اللي أكله الحمل“
استمر الأبنودي في السقوط، يكتب قصائد لا تليق بطفل في المرحلة الإعدادية، قصائد مباشرة وساذجة وموجهة، قصائد تحببك في الرحيل المبكر، أتذكر أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله ونجيب سرور.
أصبحت قصائد الأبنودي مرتبطة بالأجندة السياسية، أصبح شاعر النظام المتطوع، فقصيدة “مش كل ورقة تتمضي”، وقت استفتاء الدستور في 2014، والتشجيع على قول نعم، ثم قصيدة “مرسال”، ووجها إلى السيسي عن غلاء الأسعار، هكذا أصبح الأبنودي شاعر النظام، الشاعر القادر على معارضة الرئيس، ومدحه، ليقدم له الرئيس رحلة علاجية على حساب الدولة، نسى الأبنودي حتى ما كتبه في أخر إيامه، «آن الآوان ترحلي يا دولة العواجيز».
الأبنودي شاعر عظيم، بقصائده وجواباته وأغانيه، قبل الأبنودي بالخسارة أمام وحش الشعر، لم يقدر على المغامرة أو الرهان، زهد القمار، فخسر كل شيء، فقدت القصيدة روحها، تجلط الدم وماتت فور ولادتها، لم نسمع حتى صرختها الأولى.
نتذكر قصيدة “اذكروني لما تصطادني الأيادي”، قصيدة تليق باسم شاعرًا عظيم مثل الأبنودي، نجد نبض القصيدة من بدايتها، تعلن عن نفسها بنفسها، لا تنتظر وسيط..
“كان لي أخ
رفقا في السرا وفي الضرا وفي الثورة
وفي الحلة وفي المرة سنين وسنين
نقول ونقول ومانبطلش جخ
كان لي اخ
نتحبس مانقولش اه
نتضرب مانقولش اخ“
ينطلق الأبنودي في هذه القصيدة، في وصف ما يمكن أن يصل إليه الشاعر من الانهزام، والتذلل للشعر، من خان الأمانة. الأبنودي صائد للصور بكل بساطة، عارف ببواطن القلوب ومخابئها، «وإحنا جاهلين بالسياسة.. بس لينا في الحنين»؛ في جمل بسيطة يختصر حياة أشخاص وتاريخ دول، من الصور للجمل المباشرة بطعم الهتاف والحماس الثوري، «تقدروا تسمونا عشاق للمبادئ كان لي أخ كنت أنا مؤمن بصدقه وهو مؤمن إني صادق»، يتحرك الأبنودي في القصيدة بكل حرية، شاعر متمكن من كل أدواته، من الموزون والغير مباشر إلى المباشر والصريح، إلى الغنائي..
“وكنا ندرك كل حرف وموضعه في كلمة وطن
كان رفيقي وكان شقيقي
وكان طريقي وكان بريقي
وكان يواسي في المحن“
الكريشندو الصوتي والدرامي والمشهدي، من أدوات الأبنودي، ترى المشهد كأنه مجسد أمامك، ترى تطور الأحداث، وتشابكها، عندما يجن شيطان شعره، عندما ينهزم أمام وحش الشعر الأليف، عندما يطلق الصدق كلمته، عندما يتصارع الذاتي مع نفسه.. «قال ده صوت مرشد صاحبكم بيطرش الخوف والعفن ده كلام ما يقوله غير المرشدين»، ليظهر الكريشندو في المقطع التالي
“الوداع يا صوتي ما عدتش أًصيل
الوداع يا قلبي ما نتاش قلب نيل
الوداع يا طين بلادي يا مش جميل
الوداع يا نيل أنا مش شاعرك
ولا في إمكاني هز مشاعرك“
من هنا تبدأ المعركة، يبدأ التعري، أجمل الشعر أكثره انهزامية، ومكاشفة، رحلة المشاجرة بين الشخص والشاعر، نصل للكريشندو المطلوب للمشهد..
“شعلة الثورة انطفت
لا تروى قلب لا تضوى درب
شاعرك جاهل ونفعي وابن كلب
انتزع منه الهوية والصفات المجانية“
شاعر الدولة، شاعر النظام الأليف، الذي لا يعلوا صوته، الذي يكتب قصائد في المناسبات، يغضب الغضب الجميل المباح، يقف في المنطقة الرمادية، لا يقترب من الشعر، ولكنه يحوم حوله، يهاب نار الشعر، يدور حول حلقات النار من بعيد، عبر الأبنودي عن ذلك بكل بساطة وصدق
“امنعوا الصوت المريب ده يغني تاني للوطن
اللي بينافق الحكومة من خلال زيف القضية
اللي بينافق الحكومة باتفاقه المفتعل“
الأبنودي يصارع نفسه، شيطان الشعر يسيطر عليه، ستكتب قصيدة عظيمة، حتى لو يصيبك التعري، حتى لو أصابك الشعر بالمذلة، يوضح الأبنودي الطريق للنهاية، كيف يضمن المكسب دائمًا..
“لازم اتخلى عن الوعي الحقيقي
لازم اتخلى عن القلب الحقيقي
لازم اتخلى عن الشعر الحقيقي
لازم أتخلص بأيدي من بريقي
لازم أرقص فوق بحور الدم ..أشرب
لازم أعبر فوق أنين الخلق ..ما أتعب.. كله مكسب“
الشاعر الذي باع ضميره، كيف عاش الأبنودي هذه الحالة؟، بين الشخص العادي، ولعنة الشعر، الأبنودي عندما كان يحترم القصيدة فتحترمه الكلمة، عندما كان يراهن بالقصيدة، ولا يهاب الحلم والتشابك مع الذات من أجل قصيدة جيدة..
“لازم أقلع هدمة الشرفا وأتستر بعار
لازم أتغزل في كاسات المرار
لحظة الظلم أبتسم
لما اشوف الحق أغض.. كله مكسب“
يصعد المشهد تدريجيًا بتكرار الكلمة كــ “الوداع” و”لازم”، يضع الأبنودي جمل ملخصة للمشهد العام، للحياة؛ «العباد على دين ملوكها في عقائدها وسلوكها»، وعلى اسم القصيدة “اذكروني لما تصطادني الأيادي”، ويعيش الأبنودي مع فكرة الرحيل في الصغر، هنا الأبنودي يفكر في المستقبل، كيف يصارع الشاعر الزمن والذات، الخوف من السقوط، وربما السقوط بالفعل..
“لأني كان ممكن أعيش
وأبقي طاووس يختبي
صوته القبيح في أحلي ريش
بين طواويس الوطن…
وأبقي سافل
وأستخبي تحت لفتات الحيا
المثقف.. المجفف اللي فرعه مهما طاطى
عمره ما يشبع تدني“
لا ينسى الأبنودي الصعيد، دائمًا في خياله، دائما يحرث من تراثها وبيئتها، يذكرك دائما إنك في الصعيد، «هكذا قال المغني وكأنه كان ساعتها بيغني عني»، الجمل تأكد فكرة الأبنودي في الصراع الداخلي في صدر الشاعر، «الاحتراف ياكل الهواية.. تسقط الحرية في السكة ونتخلق بأخلاق العبيد»، «يصبح الجمهور زباين.. حاجة بدعة تسكت الأصوات لكن الأمة سامعة والقضية الإنسانية تبقى سلعة».
يخرج الأبنودي للفكرة العامة، يجادل في معنى الوطن، يرصد التقلبات الفكرية بكل بساطة وصدق، ويتسأل بسخرية واستنكار، ده وطن ولا فخ؟!
“الوطن عبقري العالم في تنويع البلادة
واللي بيعذبنا فحضوره وغيابه
ساعة نتمرغ في صدره
وساعة نلعن أبو اللي جابه
الوطن الكلمة دي
العذاب اللي بنوره بنهتدي
العذاب ما نقولش أخ
ده وطن ده ولا فخ“
هل عاش الأبنودي ولم يسقط في الفخ؟، هل مازال يحترم الكلمة والقصيدة؟، هل ما زال يتذكر هذا النص، هذه الحالة؟، لا إجابة، ولكن الأكيد إنه مازال يكتب القصائد ويشارك في الحياة السياسية.